لا تزال ذاكرة شباب وشيوخ حقبة ما يُسمى بجيل الطيبين تحمل في طياتها الكثير من الذكريات الجميلة في رحاب البيئة المدرسية، ويتذكَّر ذلك الجيل شخصية عريف الفصل كأحد مناصب التنظيم الإداري في المدرسة، ورغم أن مهام عريف الفصل كثيرة ومتنوعة؛ حيث يعدُّ حلقة الوصل بين الطلاب في الصف وبين رائد الصف وإدارة المدرسة، كما يقوم بالإشراف على ترتيب الفصل ونظافته وسلامة الأثاث وجميع محتوياته، وهو المسئول عن تسجيل الغائبين في كل يوم وتسليمه للمسؤول عن الغياب في المدرسة، إلا أن المهمة الأكبر لعريف الصف كانت تتركَّز في ضبط الفصل عند خروج المعلم بين الحصص، وعدم السماح لأي طالب بالخروج خارج الصف؛ إضافة إلى تسجيل أسماء المشاغبين لوكيل المدرسة أو المرشد الطلابي لمعالجة المشكلة، وبالفعل فإنه وعلى أرض الواقع فإن الممارسة الفعلية لمهام عريف الفصل تنحصر في ضبط الصف في حالات عدم تواجد المعلم وتسجيل أسماء المشاغبين وتقديمها له أو للإدارة، ومن هذا المنطلق فقد كان المعلمون يحرصون على إسناد مهمة عريف الفصل للطالب الذي يتميز بقوة الشخصية، وكذلك القوة الجسدية كي يكون مؤهلًا لتخويف وإسكات الطلاب، والحد من حالة الفوضى التي تحدث بعد خروج المعلم من الحصة أو في حالة غيابه؛ ولذا لم يكن يشترط لهذه المهمة اختيار الشخص المثالي أو المجتهد والمتفوق في دروسه، بل كثيرًا ما كان العريف متأخر دراسيًّا.
ورغم انتهاء زمن عريف الفصل إلا أن هناك ممن استفاد من هذا الدور عندما اقتحم مجال الحياة الوظيفية فتحوَّل إلى مخبر لمديره، فكان من السهل والمفيد لمديري كثير من المؤسسات استغلال هذه النوعية من الموظفين لوضعه في الصورة كمدير إدارة أو رئيس قسم أو حتى كنائب للمدير أو وكيل أو مدير لأحد فروع المؤسسة إن وجد لها فروع، وهذا فقط من الناحية الشكلية أما في حقيقة الأمر؛ فإن مدير عام المؤسسة يتعامل مع أيًّا من أولئك الأشخاص كعريف فصل فقط. فتظل أكبر مهمة لهم هي حصر حضور وغياب الموظفين، والتأكد من عدم مغادرتهم فصولهم عفوًا عدم مغادرة مكاتبهم قبل نهاية وقت الدوام. أما سوى ذلك فحتى عندما يكون موظفو إدارة من الإدارات لديهم بعض المطالب أو التساؤلات حول موضوع ما؛ ويتم توجيهها لرئيسهم المباشر، فتجد ذلك العريف الضعيف لا يملك الجواب، وفي ذات الوقت لا يجرؤ على سؤال مدير عام المؤسسة، وإن تجرأ وسأله أو طلب منه النظر في مطالب الموظفين؛ فالمؤكد أنه لن يجد إجابة على تلك التساؤلات، بل ربما يتلقى نقدًا لاذعًا له ولمرؤوسيه. تخيل رئيس قسم ينقل احتياجات موظفيه لمدير المؤسسة؛ فيرد عليه قائلاً: (لا تشغلني؛ عندي أمور أخرى أكثر أهمية من مطالبكم!!) أو ربما قال له بصفاقة: (اسكت!! من زين موظفيك على شأن تكون لكم مطالب)!!
الفرق بين مدير المدرسة ومدير عام المؤسسة؛ أن مدير المدرسة على أقل تقدير يعترف بأهمية دور المعلمين ودور عريف الفصل ويعرف مهامهم، كما يدرك الفرق بين حقوق المعلم وحقوق الطالب، أما مدير عام المؤسسة فالجميع لديه طلاب؛ فلا يوجد مدير غيره ولا معلم سواه، والموظف المتميز من وجهة نظره هو (من يهزّ رأسه بصورة أكثر أمام سعادته)، ومع ذلك فلن يتجاوز دوره أو مسؤولياته مسؤوليات عريف الفصل، بينما تبقى كل القرارات بيد المدير العام، كيف لا!! وهو يعتقد أنه الوحيد الذي يعرف كل الأمور وفي مختلف الوحدات الإدارية، وإن كان جهله سرعان ما يفضحه عند أول نقاش، لذلك حتى في اجتماعاته تجده يتجاهل مناقشة النقاط المهمة، ويتوقف عند القشور وصغائر الأمور التي لا تؤثر على الموضوع المطروح بينما تجده يتملص من المسؤولية، ويتجاهل الحديث عن الأمور التي تهم مستقبل الموظفين، وتصب في نجاح خطط المؤسسة، ويصب جُلّ اهتمامه وتركيزه على تلميع نفسه طمعًا في الوصول إلى منصب أعلى!
ولكن رغم كل ما سبق الحديث عنه إلا أن هناك نسبة من المديرين في عدد من الأجهزة الحكومية – وإن لم تكن تلك النسبة كبيرة- تعمل بروح الفريق الواحد وتتلمس احتياجات المرؤوسين بشكل دائم وتحرص على دعمهم، وتمكينهم للارتقاء بأدائهم وإكسابهم الخبرات اللازمة للقيام بمهام أكثر أهمية، وتدريبهم لتولي مناصب قيادية في المستقبل، فمثل هذا الصنف من المديرين لا تملك إلا أن تقف له احترامًا وتقديرًا.
• حقيقة:
النرجسية في الإدارة هي أسرع طريق لانهيار أي مؤسسة.
• خير ختام:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه).