قبل الولوج في ذلك الغلوّ المحمود ارتأيت أن نستطيب قليلاً برائحة التشكيك، ونستظل هُنيّة تحت سماء التساؤل، إذ لا شيء أجمل صنيعاً من تلك الشكوك الباعثة للبحث، وأجمل منها روح جُبلت على البحث، واستمرأت الشك، وغالت في السؤال.
مدى موافقة المصطلحات للحقيقة ستبقى عائمة، بعيدة عن الإنصاف، فالحب والكره، والجمال والقبح، والشجاعة والجبن،……الخ كلها أطراف تتقابل ولا تتصاحب، كما أنه لا توجد صفة مكتملة بالمطلق، فكل جمال فيه قليل من القبح، وكل فرح ممزوج بقليل من الحزن، وكل شجاعة قد يساورها القليل من الجبن، وإذا ما شئت الدقة ستضطر لمعانقة الفلاسفة، والحديث بمنطقهم، إذ أن تلك الصفات وما يتلوها من أحكام هي رهينة الذوات، فالذي حكم على هذا بالشجاعة هو ذاته الذي حكم على آخر بالجبن، والذي حكم بشدة الجمال في ذلك المقصود قد حكم بالقبح على آخر، وفي جميع تلك المواقف تتعدد الأحكام دون أن تتعد الذوات ومتى وسّعت دائرة الحكم زادت الهوة بينها، فالشجاع والشجاع جدا والجبان وشديد الجبن وأجبن الخلق وأشجع الناس كلها منازل في دائرة واحدة تتخالف فيها الذات الواحدة فضلا عن التخالف الأكبر بين مقصود واحد وقاصدين كثر.
“لو لا اختلاف الأذواق لبارت السلع” كما قيل والمعنى عام وليس خاصا، فالصفات في معظمها نسبية، والأحكام تعتمد على مُصدرها؛ بين وعيه وفكره ومزاجه ونظرته للأمور، وهذا تأكيد مستبين لما تقدم، وإن أردنا العدل ينبغي على كلّ منا أن يخرج من زاويته الضيقة إلى أفق أوسع ورؤية أكثر شمولية، منطلقاً من فكرة أن “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب”، وهنا يتحقق تكاثر الأحكام ويتكاثر معها الصواب وهذا عين الطلب.
مما سبق يتبين انعدام وحدة التصور بناء على هشاشة تلك المصطلحات، وانعدام الوحدة يعني انعدام شرعية تلك الأحكام، ومع ذلك نجاهد كثيراً طلباً للاتزان، ونحارب ببسالة طمعاً في المنتصف.
دعونا من حقيقة المنتصف الدقيقة ولنعد إلى ما توشح العنوان وقدم به، ونقوم عليه تبسيطاً لنخرج باتزان مرقوب وإنصاف مطلوب.
نادراً ما ينطلق حكمان متضادان في آن واحد، وهذا كفيل بوضع خطوط تتقارب مع الأسود أكثر من الرمادي، فتكون دليلاً إلى الحق وطريقاً وإليه، وما دام التوازن يعني تعادل الميزان بين متوازنين وهكذا دل عليه جذر الكلمة، فمن أثره نستنبط صلاحه، وعاقبة النتاج هو من يحدد الاحتياج.
التطرف في الشعور يضني والتطرف في الحكم ظلم، ولا نريد أن نتطرف في شرح المعلوم دون أن نقف على السبيل المراد والمراد الأسلم، ولهذا فأن عتبة التوسط وسلم الاتزان لا يقوم إلا بمعرفة المتضاد أو أقله ما عم تضاداً في ذات الشأن، وتجريد الوقائع مما تصاحب من حظوظ النفس ومطالب الهوى، ليكتمل الوسط مقالاً ومقاما فيقيك طرفيّ النقيض ومتناقض الأطراف. وكلما غاليت اتزانا كلما كنت أكثر موافقة للصواب وكما أن الغلو في الحب لا يعد معيباً، فإن الغلو في الاتزان مبالغة انصاف واستزادة في الحق وعلو في الحقيقة.
ختاماً……. لن تُحقق التوازن مالم تتحققُ مما يتوسطه وتقف على طرفيه.