استطاع الملك عبد العزيز – يرحمه الله- بعون الله وتوفيقه، وبما أتاه الله من إيمان قوي، وعزيمة صادقة، وإرادة صلبة، ورؤية ثاقبة، وإصرار على النجاح، وصبر على الشدائد أن يحقق المعجزة فوق رمال الصحراء، ليقيم فوق هذه الأرض المعطاء وطنًا عزيزًا موحدًا وشامخًا، وليصبح أحد أبرز قادة العالم في زمانه، حتى إن العديدين شبهوه ببسمارك ومازيني وسيمون بوليفار وجورج واشنطن، وغيرهم من قادة العالم الذين حققوا الوحدة لأوطانهم، لكنه مع ذلك – وهو ما أدهشهم- لم يغيره هذا الوضع الجديد، ولم يجعله جبارًا عتيًا، بل بالعكس من ذلك أكسبه المزيد من الإنسانية. وجاء اكتشاف النفط ليزيد من كرمه وعطائه الجميل لمواطنيه وللأشقاء من حوله، وأحبه شعبه حبًا جمًا عندما رأوا فيه الملك الإنسان الذي يسعى بكل ما يملك من جهد لإسعاد مواطنيه، والنهوض بهم إلى أعلى المراتب. ولاحظ أولئك المراقبين أيضًا أن صعود نجم الملك عبد العزيز رافقه عدم استساغته لأسلوب الثناء والمديح الذي يكيله بعض الرعايا، والذي كان سائدًا في تلك الفترة في عالمنا العربي والإسلامي، فخطب قائلًا – وفقًا لأمين الريحاني-: “أسمع خطبائكم يقولون: إمام عادل.. هذا كذا وكذا.. فاعلموا أن ما من رجل، مهما بلغ من المنازل العالية يستطيع أن يكون له أثر، وأن يقوم بعمل جيد إذا كان لا يخشى الله، وإني أحذركم من اتباع الشهوات التي فيها خراب الدين والدنيا، وأحثكم على الصراحة والصدق في القول، وعلى ترك الرياء والملق في الحديث”.
وكثيرة هي الحكايات التي تكشف عن البُعد الإنساني في شخصية القائد الموحد، نستذكرها ونحن نعيش ذكرى اليوم الوطني لوطننا الغالي، وهي حكايات ما زال يرويها بعض كبارنا ممن عرفوا جلالته عن قرب وما زالوا أحياءً، أو يرويها الأجداد لأبنائهم وأحفادهم، أو جاءت في كتب سيرته -يرحمه الله-التي كتبت بعشرات الأقلام من قبل كتاب سعوديين وعرب وأجانب بشتى اللغات الحية. ولابد وأن نشعر بالفخر والاعتزاز ونحن نسمع أو نقرأ تلك الحكايات، ليس فقط لأن الله عز وجل أكرمنا بالملك عبد العزيز – يرحمه الله-وإنما أيضًا لأن هذا البعد أصبح جينًا يتوارثه الأبناء والأحفاد من بعده، حتى استحقت مملكتنا الحبيبة أن توصف بكل جدارة بأنها “مملكة الإنسانية”.
ويتمثل البُعد الإنساني في شخصية الملك عبد العزيز – وهو بعد صقلته تربيته ونشأته الإسلامية – أكثر ما يتمثل في بره بوالديه وتعامله الإنساني مع إخوته وزوجاته، وتعامله الطيب مع المرأة بشكل عام، وقد اشتهر بصيحته التي اعتاد أن يهتف بها عند فزعاته: “أنا أخو نورة”!، ونورة أخته التي كانت تكبره بسنة والتي كان يجلها أعظم إجلال. كما يتمثل هذا البعد برفقه بالمسنين، وعطفه على الفقراء والمحتاجين.
يقول الأستاذ فؤاد شاكر في بر الملك عبد العزيز بوالده في كتابه “الملك عبد العزيز، سيرة ومسيرة”: “لا حاجة بي إلى الإشادة إلى بر عبد العزيز بوالده وحبه وتقديره واحترامه وتوقيره… وحسبنا أن نشير إلى أنه حمل والده الإمام عبد الرحمن -رحمهما الله- جميعًا ذات يوم في المسجد الحرام بمكة المكرمة من باب السلام إلى مصلاه بداخل الحرم، حمله على كتفه أمام الملأ من الناس، حينما بلغت الشيخوخة بالإمام عبد الرحمن إلى العجز عن السير، ورفض أن يقوم الخدم أو الحرس بذلك”.
ويدلل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز-حفظه الله-على اهتمام جلالة الملك عبد العزيز بالمرأة وأسرته (عبد العزيز الإنسان .. التأصيل الأخلاقي السليم، “الاقتصادية”، الإثنين 23 سبتمبر 2013) بقوله: “إن للمرأة في حياة الملك عبد العزيز اهتمامًا خاصًا، إذ كان يستشير أخته الكبرى نورة -رحمها الله -في شؤون أسرته، وشؤون النساء، لقوة شخصيتها وتدينها ومحبتها للخير ويقبل شفاعاتها للناس دون تردد”. ويستطرد جلالته بقوله: ” كان الملك عبد العزيز يخصص للنساء من أسرته وغير أسرته وقتا في المساء للاستماع إليهن، وقضاء حوائجهن وليطلع على أحوالهن على الرغم من مشاغله المعروفة، وكان يزور الكبيرات من أسرته، صلة للرحم، وكان ضمن برنامجه اليومي إذا انتهى عند الظهر من مقابلة الناس وإنجاز العمل في قصر الحكم زيارة أخته نورة في بيتها تقديرًا لها”.
ونستطيع أن نخلص في ضوء ما سبق إلى أن البعد الإنساني في شخصية القائد المؤسس والباني العظيم الذي وضع أسس أقوى وحدة وطنية في التاريخ المعاصر بأنه كان إنسانًا في الحرب والسلم، وفي النصر والهزيمة، وفي الرخاء والشدة.
وكان إنسانًا مع خصومه بعد الانتصار عليهم، وكان إنسانًا أيضًا في عفوه وكرمه، وفي بره بوالديه وصلته لرحمه.
رحم الله الملك عبد العزيز رمز وعنوان مجدنا، وباني نهضتنا، وموحد التراب والإنسان في وطن العز والإباء والشموخ والعلياء.
0