المقالات

أَبْقِ مسافة

ف-نار

بعضُ العلاقات الإنسانية ينشأ منذ الطفولة، ومع مرور الوقت والتجارب المشتركة تنصهرُ فيه المشاعر، وتتولّد عاطفة راسخة تتجذّر في أعماق الوجدان تكون بعد ذلك علاقة ذات قيمة إنسانية سامية تعارفَ عليها الناس، وأسموها صداقة، وما كلّ من يشاركنا طرفاً من رحلة الحياة، ونتقاسم معه بعض حلوها ومرها يكون أهلاً لها، فقد يطرأ في أثناء الانتقال من مرحلة عمرية إلى أخرى تبدُّل مزاج بعض الأشخاص الذين كنا نعدهم أصدقاء، وبعضهم يضيع منّا في زحمة الحياة، فيصيبنا الأسى، ونتباكى على أيام حلوة عشناها معهم، وأحياناً نتمسك بمن لا يرغب في صداقتنا، وليس لديه قناعةٌ ببناء مثل هذه العلاقة، فضلاً عن المحافظة عليها، وهؤلاء يشبهون الأشجار التي تغيّر أوراقها بتغيّر المواسم والظروف، ومنهم من يبقى معنا يشاركنا حتى الأشياء الصغيرة، فيسعد معنا، ويأمل لنا، ويحزن إن أصابنا مكروه، وبعضهم يفارقنا في محطات قريبة أو بعيدة، قد لا نراه بعدها، ولا نسمع عنه شيئاً، وقطارنا يسير، وفي كل محطة تمر بنا ينزل بعض من عرفناهم، وسعدنا بهم، ويصعد آخرون لا نعرفهم، ومع استمرار الرحلة نتشارك كل ما يحدث لنا، ويبدأ الاندماج مع من يكونون قريبين إلى نفوسنا، أو نكون متشابهين في أحوالنا، فينضمون إلى باقة الأصدقاء القدامى ليُشكّلوا جزءاً مهماً مِن دائرة علاقاتنا وعاطفتنا التي لولاهم لما نَمَت، وتفرّعت، وأثمرت أوقاتاً مؤنسة، ومواقف كشفت عن أصالة جوهرهم، فيزداد تعلقنا بهم واعتقادنا بأنّ الدنيا بخير ما دام فيها أمثال هؤلاء الخيّرين.

ولأن من طباع الدنيا أنّها تجمع وتفرق، فإننا، ونحن نسلك سبلها المختلفة، سنقابل حتماً أناساً آخرين يبهرنا بعضهم بحلو لسانه وطيب معاملته، فنحب أن نكون قريبين منه على الدوام، فلا نفارقه، لكن حينما تحين اللحظة التي تنوي أن تُسقِط أقنعتهم لتكشف لنا وجوههم الحقيقية تصيبنا الصدمة، ونحار في علاقتنا بهم، فهل يا تُرى كان خطؤنا أنْ منحناهم ثقتنا أمْ أنّهم يجيدون الإضمار والتستر على ما في قلوبهم من نيّات لأنها في طبيعة تركيبتهم الشخصية؟

قد تترك مثل هذه الصدمة آثاراً سلبية فيمن يحملون النوايا الطيبة حينما يمرون بمثل هذه المواقف، فيصابون باضطراب في عواطفهم وبزلزلة في ثقتهم بالآخرين، فينكفئون على ذواتهم، ويضربون حول أنفسهم جداراً من العزلة، وهنا يختلف الناس، كلّ بحسب طبيعته ونفسيته وثقافته ومدى وعيه بطبائع البشر وتقلُّب أحوالهم، فإن كان ممن حباهم الله علماً ومعرفةً وسعة إدراك، وأُلهِمَ ملَكةً، فإنّه سيُحوّل هذه المواقف والتجارب الإنسانية إلى دروس، فيُسطّرها كتباً فيها من العبر ما يُلهم الآخرين فنون التعامل مع النّاس على اختلاف مللهم ونحلهم، وهذا النوع من الناس يعزل نفسه لا ليعاقبها على ما فرّطت من ثقة بمن لا يستحقون، لكن لكي ينقل تجاربه، حسنةً كانت أم رديئة، بأفضل أسلوب، وبذلك يضعون إضاءات في طريق القادمين من خلفهم لكي يكشفوا لهم جوانب مبهمة تكون في شخصيات بعض الناس. مثل هؤلاء الكُتّاب نشعر تجاههم بالامتنان والتقدير الكبيرين.

وهناك صنفٌ آخر ممن يقع في مثل هذه التجربة يغلق بابه على نفسه، ويقطع صلته بمن حوله من الأقارب والأصدقاء وبالذين كان لهم مواقف محمودة معه، إذ يصبح لديه تخوُّف من أيّ علاقة تربطه بالناس، ويركز ثقته في نفسه دون غيرها، فيراها الوحيدة التي تعطي خيراً، ولا تكسب إلّا شراً، كأن الناس كلهم خبثاء، ولو بدرجات متفاوتة، وهو الوحيد ذو القلب السليم الصافي، وهذا النوع من ردة الفعل يجر إلى العزلة، ويسبب للشخص آثاراً سلبية في صحته النفسية والبدنية، ويفقد شهيته نحو مباهج الحياة، وتضعف نفسه، وتتضاءل بنيته، ويقع فريسة للحزن والاكتئاب، وقد تتطور حاله إلى ما لا يُحمد عقباه.

لكنّ السبيل إلى حماية جماليات علاقتنا بالناس وبالأصدقاء هو الوعي بالذات وحفظ مكانتها وكرامتها والتوازن في التعامل معهم وعدم الانجرار وراء أي شخص لمجرد أّنه أظهر سلوكاً أعجبنا أو موقفاً جميلاً ضخّمناه حتى غطى عيوننا عن مثالبه، فإبقاء مسافة بيننا وبين من نحب أمر مهم جداً، لأن تبدّل الأحوال وتغير المزاج طبيعة في البشر، وحوادث الدهر كفيلة بها، لذا فإن هذه المسافة ستعمل كالعازل للحرارة المستعمل في المنشآت، فيُبقي حالنا مستقرةً ومتوازنةً، فإذا ما أُصبنا بمثل هذا النوع من الصدمات فإنها ستتبدد في تلك المسافة، حتى ولو كانت كبيرة، فلن يكون حجم ضررها إلّا أذىً بسيطاً ما أسهل أن نتعافى منه!

وهذا لا يعني أن نضع الجميع ممن ننعتهم بالأصدقاء في مستوى واحد من القرب، لكن يجب الحذر ممن لم تضعهم الحياة لنا على المِحكّ، لذلك فحين نضع معايير الصداقة الحقة التي عمادها الوفاء والتضحية، فلن نخرج بأكثر من صديق أو اثنين في أحسن الأحوال، وقد لا نخرج بغير لا شيء.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button