تميّز الخطاب الذي ألقاه خادم الحرمين الشريفين-حفظه الله- بمناسبة الدورة 76 للجمعية العامّة للأمم المتحدة، بالدقّة والوضوح وكانت كلمته مدويّة بما حملتْه من مضامين ودلالات وأبعاد تعكس ما تُوليه المملكة العربية السعودية وقيادتها من اهتمام بالغ بمنظومة الأمم المتحدة ومن التزام دائم بمبادئ وقرارات الشرعية الدولية، وتعكس في الوقت نفسه رؤية وحنكة قائد حكيم، والمكانة والدور الإنساني والتنموي والاقتصادي الريادي للمملكة على الصعيدين الإقليمي والدولي، تأتي في توقيتٍ دقيق وبالغ الخطورة، أصبح فيه العالم في حاجة ملحة وضرورية إلى صوت الحكمة والاعتدال والتعاون لمواجهة التحديات الجسام التي يمر بها، وفي مقدمتها وباء كورونا وتداعياته الصحية والاقتصادية، وتمثّل هذه المقالة قراءة في مضمون الخطاب وتحليلًا لدلالاته وأبعاده.
أثار خطابه– حفظه الله – عدّة قضايا وأبرز الأسس والمبادئ والسياسات التي رسمتها المملكة بقيادته على المستويين الداخلي والخارجي؛ حيث تمثّلت أبرز المحاور التي اشتمل عليها الخطاب في ما يلي:
أولاً: أشارت كلمته -حفظه الله-، إلى اعتزاز المملكة العربية السعودية بأنّها من الأعضاء المؤسسين لمنظمة الأمم المتحدة وشاركت في مؤتمر سان فرانسيسكو بتاريخ 26 يونيو 1945 الذي تم خلاله إقرار ميثاق منظمة الأمم المتحدة، وكانت المملكة مساهمًا رئيسيًا في المساعدة الإنمائية للأمم المتحدة منذ الخمسينيات، ومن هذا المنطلق، فإنّها تؤكد التزامها الدائم بالمبادئ والأسس التي تضمنها الميثاق وسعيها الدؤوب نحو وضع تلك المبادئ والأسس موضع التطبيق العملي، وحرصها الدائم على دعم منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة بوصفها إطارًا للتعاون بين الأمم والشعوب ووسيلة فاعلة لفض المنازعات ومعالجة الأزمات.
ثانيًّا: أبرز الدور القيادي الذي تضطلع به المملكة في مكافحة فيروس كورونا النابع من حرصها على تأمين استجابة عالمية على قدر التحدِّي الذي تفرضه تلك الجائحة. وتجسَّد الدور القيادي للمملكة في هذا الإطار من خلال رئاستها لمجموعة العشرين العام الماضي، وتنسيق الجهود الدولية لمكافحة الجائحة، وتقديم مبلغ (500) مليون دولار أمريكي؛ إضافة إلى تقديمها 300 مليون دولار أمريكي، لدعم جهود مكافحة الجائحة التي تفتك بالعالم والحد من تأثيرها الإنساني والاقتصادي.
ثالثًا: تطرق الخطاب إلى الدور الذي تلعبه المملكة في مجال العمل الإنساني، مبينًا الحقائق والثوابت التي لا تحيد عنها في هذا الإطار، ومنها أنّه ورغم الصعوبات الاقتصادية، فإنّ المملكة مستمرة في الالتزام بدورها الإنساني والتنموي الكبير في مساعدة الدول الأكثر احتياجًا، وتلك المتضررة من الكوارث الطبيعية والأزمات الإنسانية، ولا تميّز في ذلك على أُسُسٍ سياسية أو عرقية أو دينية. كما أنّ المملكة أكبر دولة مانحة للمساعدات الإنسانية والتنموية على المستويين العربي والإسلامي خلال العام 2021، ومن أكبر ثلاث دول مانحة على المستوى الدولي؛ حيث قدمت خلال العقود الثلاثة الماضية أكثر من (86) مليار دولار من المساعدات الإنسانية، استفادت منها (81) دولة حول العالم، وفي هذا البُعد بيّن -حفظه الله- أنّ المملكة تدرك أهمية تضافر الجهود في سبيل مواجهة القضايا الملحة والمتنوعة التي يواجهها العالم والتحدي المشترك الذي يمثله التغير المناخي وآثاره السلبية، وفي هذا الإطار قدمت مبادرات نوعية تهم المنطقة والعالم، أبرزها مبادرات السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر، والاقتصاد الدائري للكربون، التي من شأنها تقديم مساهمة فاعلة ومؤثرة في تحقيق الأهداف الدولية في هذا المجال.
رابعًا: أكّد الخطاب حرص المملكة على تعافي الاقتصاد العالمي، من خلال الجهود الريادية التي بذلتها، بالتعاون مع شركائها في تحالف أوبك بلس، وفي إطار مجموعة العشرين، لمواجهة الآثار الحادة التي نجمت عن جائحة كورونا، وذلك لتعزيز استقرار أسواق البترول العالمية وتوازنها وإمداداتها، على نحو يحفظ مصالح المنتجين والمستهلكين.
خامسًا: لم تُغْفِلْ كلمته -أيده الله- التحولات الكبيرة التي تعيشها المملكة على المستوى الثقافي وتمكين المرأة، والتحولات الاقتصادية والمؤسساتية، والمبادرات التي أطلقت بإقرار وتنفيذ رؤية سمو ولي العهد الطموحة 2030 التي تمثّل الطريق إلى المستقبل؛ حيث تهدف إلى المساهمة في نهضة البشرية وحضارتها والارتقاء بمستقبل المملكة وتلبية التطلعات بالاستناد إلى مكانة المملكة الدينية ومكامن قوتها وقدراتها الاقتصادية وموقعها الاستراتيجي.
سادسًا: شدد خطابة على أنّ نهج المملكة يقوم على دعم الأمن والاستقرار، والنموِّ والازدهار، لافتًا إلى أن منطقة الشرق الأوسط عانت، ولا تزال، من تحديات أمنية وسياسية كبرى تهدد أمن شعوبها واستقرار دولها، وأنّ تحقيق السِّلم والأمن الدوليين هدف استراتيجي للمملكة، فضلًا عن سَعْيِها الدائم إلى بذل جهود الوساطة، وأن خيارها الأساسي هو التوصُّل للحلول السلمية واحترام القوانين والأعراف الدولية.
ويعكس الخطاب، رؤيةَ قائدٍ للأمّتين العربية والإسلامية، مُنْشَغِلٍ بأوضاعها والبحث عن حلولٍ لاحتواء ما تواجهه من أزمات؛ حيث شملت كلمته القضايا العربية وعلى رأسها قضية فلسطين، وأكد مبادئ المملكة تجاه هذه القضية المصيرية الرافضة لأي اتفاق سلام دون تحقيق العدالة التامة للشعب الفلسطيني. كما أثار خادم الحرمين الشريفين، قضية أزمة سد النهضة بين إثيوبيا ومصر والسودان، مؤكدًا دعم بلاده لحل سلمي ملزم للقضية. كما تدعم المملكة بقوة جميع الجهود الرامية لتحقيق السلام والاستقرار في أفغانستان، ومن جهة أخرى، أظهر الخطاب مجموعة من القواسم المشتركة لرؤية الملك سلمان، لتطورات الأوضاع في ليبيا وسوريا وسبل الخروج من الوضع الراهن المتأزِّم في البلدين؛ وذلك بالحفاظ على مؤسسات الدولة ووحدة تراب البلدين وإدانة التدخُّلات الخارجية والدعوة إلى حلول سياسية سلمية.
سابعًا: في هذا السياق أكَّد -رعاه الله- على التزام بلاده دومًا بمبادئ وقرارات الشرعية الدولية، واحترام السيادة الوطنية لجميع الدول، وعدم التدخل في شؤون الدول الداخلية، مشددًا على احتفاظ المملكة بحقها الشرعي في الدفاع عن نفسها في مواجهة ما تتعرض له من هجمات بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة والقوارب المفخخة، ورفضها القاطع لكلّ محاولات التدخل في شؤونها الداخلية، وفي الجانب الإيراني أكد أن إيران جارة، لكن يجب أن تُظهر إيران حسن النيات، واحترام موقف المملكة الرافض لتدخل إيران في شؤون الدول المجاورة ودعمها للإرهاب، ورفضها التام لأي محاولة لتطوير سلاح نووي.
ثامنًا: أكّد الخطاب على أهميّة جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من جميع أسلحة الدمار الشامل، وشدّد على ضرورة التصدي للإرهاب والفكر المتطرف القائم على الكراهية والإقصاء، وممارسات الجماعات الإرهابية والميليشيات الطائفية، وأكد أن تحقيق النجاح في هذه المعركة يتطلب تكثيف الجهود المشتركة.
وبذلك تضمّنت كلمة خادم الحرمين الشريفين رسالة أساسية إلى العالم أجمع تدعو إلى التعايش والسلام والتعاون وأبرزت حرص قادة المملكة، على مرّ تاريخها المجيد، على زرع الخير، ليس لشعبها فحسب وإنما لشعوب الأرض لتنعم البشرية جمعاء بحياة ملؤها السلام والطمأنينة، بعيدًا عن الصراعات التي لا تخلف وراءها سوى الموت والجوع والفقر والدمار. وفي الوقت ذاته تضمَّنت رسالةَ حزمٍ وعزمٍ بأن المملكة لن تتهاون في الدفاع عن أمنها الوطني ورسالةَ طمأنةٍ للأشقَّاء الذين يمرون بمِحَنٍ، باستمرار المملكة في دعمهم ومساعدتهم. هذه الرسالة انطلقت من عدّة ثوابت ومرجعيات أهمّها المرجعية الإسلامية، المرجعية العربية، المرجعية الإنسانية والمرجعية القانونية القائمة على احترام القوانين والالتزامات والأعراف الدولية.
ويمكن القول إنّ الخطاب رسم خارطة طريق للتعامل مع كل القضايا على الساحتَيْن الإقليمية والدولية. كما قدّم رؤيةً واضحةً للمشكلات التي يواجهها المجتمع الدولي ولطبيعة التحديات التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، وٙصٙفٙتْ الحلول التي تضمن الوصولَ إلى تسوياتٍ تحقق الأمن والاستقرار، وتدعم التنمية والرخاء لدول المنطقة.
وختامًا تعكس هذه الرؤية وقوف المملكة إلى جانب الشعوب العربية والإسلامية، بل إلى جانب شعوب العالم أجمع في المحن والابتلاءات ودعمها الدائم والثابت للقضايا العادلة؛ ولهذا ظلت المملكة تستأثر بموقف الريادة، وتأخذ زمام المبادرة في الدعم السياسي والاقتصادي والمعنوي والإغاثي لشعوب الأرض قاطبة. هذا الدور الريادي للمملكة ازداد قوة وفعالية في عهد خادم الحرمين الشريفين الذي جعل المملكة في مصاف الدول المؤثرة في كل المعادلات الإقليمية والدولية.
———————
أستاذ القانون الدولي العام والعقوبات الاقتصادية
رئيس قسم القانون العام بجامعة جدة
وكيل كلية القانون والدراسات القضائية للتطوير والتنمية المستدامة سابقًا.