المقالات

الطريق إلى الحقيقة

ف_نار

  في الأزمنة الغابرة، جلّى اللهُ الحقائقَ للناس على أيدي الأنبياء، لكنّ على إنسان اليوم أن يفهم المنهج العملي للكشف عنها، لأن الحقائق لا تكشف للإنسان دفعة واحدة، بل يظهر في كل زمان بعضها، حتى إذا ما انتهى العالم، وورث الله السماء والأرض، وفنيت البشرية والخلق، كانت الحقيقة في أوج كمالها، ولذلك على الباحث عن الحقيقة ألا يعتمد على معطيات تبدو له أنها السبيل الوحيد لبلوغ الحقيقة التي يبحث عنها، بل عليه أن يتخذ منهجاً عملياً صائباً، وأوضح تلك المناهج وأيسرها منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فحين نقرأ في القرآن الكريم قصة النّبيّ إبراهيم عليه السلام نرى أنه بعد أن كشف الله له الحقيقة، وجاء قومَه ليعلنها أمامهم اتبع أساليب عدة، وذلك بحسب نوع ومستوى فهم من يخاطبهم ويستهدفهم، فاتبع مع النمرود أسلوب المناظرة. قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” 258 البقرة.

وأمّا قومه الذين يعبدون الأصنام فقد جاءهم بأسلوب المكر والدهاء، فكسر الأصنام الصغيرة، ووضع الفأس في رقبة الكبير، ولما هرع قومه إليه، وسألوه عمن فعل ذلك قال إنه كبيرهم، وهو يعلم أنهم لن يصدقوه، فكيف لحجر أصمّ أن يفعل ذلك؟ لكنه أراد أن يحرجهم ويضعهم أمام الحقيقة التي أراد لهم أن يدركوها، وهي: كيف للإنسان العاقل أن يتخذ إلهاً ممن لا ينطق، ولا يسمع، ولا يستطيع الدفاع عن نفسه؟!

وهكذا نكسوا رؤوسهم، ولم يحروا جواباً. قال تعالى: “فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ(95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون (96)” الصافات.

والذي أود الإشارة إليه هو أنّ الإنسان في عصر العلم والعقل غير الإنسان في عصر الجهالة والتقليد الأعمى، مع أنّه لا يزال إلى يومنا هذا من يتخذ أصناماً بأشكال شتى، ويعبدهم، ولكن بلا طقوس تعبدية، وإنّما يعبدهم بالحمد والتمجيد، ويأتمر بأمرهم، وقد أسلم لهم قياده كالبهيمة التي يمسك بخطامها صاحبها، فتنقاد إليه مستكينة طائعة، وشتان ما بين إنسان وبهيمة.

وكذلك من متطلبات معرفة الحقيقة وسبل الوصول إليها إعمال العقل، تلك الطاقة الملهَمة والمُلهِمة معاً، فالتقليد مذموم، وإن كان في اتباع الحق، لأن الذي خلق العقل، وجعله أجلّ ما خلق أمر باستعماله في كل ما يبلغه حقيقة الأشياء في هذا الكون اللامنتهي، بدءاً بالتفكر في نفسه وتكوينه وكُنه مادته، أو البحث في بيئته ومحيطه الطبيعي والاجتماعي، إلى تدبر الآيات الكونية، وكذلك العبر التي سطرها التاريخ الإنساني عبر عصوره المتتالية، وليس انتهاءً بحكمة النمل وأسرار بدائع النحل أو دقة خلق البعوضة.

ومن متطلبات البحث عن الحقيقة الصبر والحلم لأن من يبحث عن الحقيقة كمن يحفر في الصخر ليصل إلى عروق الذهب، وكمن يتغافل عن ظلم الجهالة والجهال في أثناء سيره في طريقه، وهم يستميتون لأجل تعويقه، فلا يرعَى لهم بالاً، ولا يضيع من وقته معهم، ولا يشتت تركيزه حتى يبلغ هدفه سالماً، ويبتسم في النهاية.

لقد كان الأنبياء يؤيدون بالمعجزات لكي يقنعوا أقوامهم بالإيمان بالحقيقة التي أرسلوا بها، إذ إنّهم لم يكونوا ليفهموا الحقيقة مجردة، بل لا بد من عرضها بوسائل حسيّة تقربها من أذهانهم البدائية، وهذا شأن الكائنات في مراحل تطورها، ولكن بعد أن وصل الإنسان إلى ما وصل إليه من تطور في قدرات عقله وتفجر طاقاته الكامنة فيه وما حققه في العصور الأخيرة مما جعل من العلم والعقل سلطانين بين يديه لا يعاندانه، بل يخضعان له خضوع العبد لمولاه… أمام ذلك كله لا حجة اليوم لمن يقلد ويتبع غيره بلا تفكير أو مراجعة إلا من كان رأسه خاوياً، وقلبه خالياً من الحواس الخفية التي لا توجد إلا في وجدان الإنسان وضميره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى