سأحاول نشر ما أجده بين أرواقي أو في ذاكرتي من قصائد قديمة هنا، متقدمًا لكم بالشكر سلفًا إن قرأتم أو علقتم أو أضفتم.
يقول الثوابي:
خذت ثورين تقدر في المناطح وتقدر في المحر.
لم يكن يعلم محمد بن ثامرة آنذاك – والله أعلم – عن مصارعة الثيران التي تجري في أسبانيا، لكي يفاخر ويعلن لنا على طريقة ما يفعله الأسبان عند اقتراب موسم مصارعة ثيرانهم ! لكنه يعلن لنا هنا وبقوة أن ثيرانه ليست ثيرانًا عادية، فلديها مقدرة فائقة على المواجهة إذا لزم الأمر، لذا فقد بدأ هنا بالتأكيد مهمتها الدفاعية قبل أن يستطرد فيسرد لنا بقية وظائفها الأساسية؛ تقدر في المناطح.
ثم ماذا ؟ وتقدر في المحر. مهمة ووظيفة أساسية أولى، فالمحر ليس من السهولة على أي ثور، فهو الذي كان يقوم بوظيفة “الشيْوَل” اليوم، وبدونه تكون مزارع محمد بن ثامرة مليئة بالزبد الذي لا يسمح باستصلاح الأرض وطلوع الزرع، وتتوالى مهام هذه الثيران التي اقتناها صاحبها الشهم البطل:
وإن بغيت الحََرَث والدّمس ما ني بقيلٌ ما تحظه.
الحرث هو أول عمليات الزراعة، يليه الدمس الذي كان يأخذنا فيه آباؤنا خلفهم في رحلة لا أحلى ولا أجمل من ذكرياتها؛ وخصوصًا إذا صاحبتها تلك الأهازيج مثل:
رفعتوك ياولدي فوق جنبي
ومن فوق جنبي لظهر البعيرا
واليوم يا ولدي عدت عارك
كما كنت عاري وانت الصغيرا
أو:
وثيران وادي الضمو غال فيها
وثيران سبه وثيران محلا
وثيران دو محدبات الظهوري
وقد كان للثور مكانته الخاصة عند أهل الزراعة كما نعلم فهذا أحدهم يوصي ابنه ويقول:
إذا شريت الثور قل له يا يبه
وتنتسم من طلبة القرابه
فقد كان يعاني أكثر الناس من عدم وجود الثور المناسب ناهيك عن اقتنائه ثورين كثيران محمد بن ثامره، انظر إلى ماذا يقول من عانى من ذلك:
ابوصيك ياولَدي حب حقك
قليلك يغانيك ع أهل الكثيري
ومنّوك ذولا ومنّوك ذولا
تعود على قدمك تستديري
والأمنية هنا أكثر ما تكون في إعارة الثور في ليالي الفيحة التي لا تسمح بإعارته !
وبن ثامرة قد تخلص من تلك الهموم كلها فقد أصبح لديه ثيران لا تجيد الحرث والدمس فقط، بل إنها تنجز المهمة على أسرع وأكمل وجه، فهو لا يشتكي من عدم سرعتها أو تكاسلها؛ ماني بقيل ما تحظه.
يحتاج بن ثامره لمثل هذه الثيران، وخصوصًا أنه ممن يتقنون فن الحرث والتعميل؛ أي إعادة الحرث مرة ومرة ، لكي يصبح تراب الأرض مختلطًا، ثراها وبغرتها بعفيرها وسطحها لكي يضمن أنها تعمّلت وأصبحت مهيأة للزراعة، ثم بعد ذلك يهتم في دمسها جيدًا، كيف لا وسرعة ثيرانه وحظتها تساعده على ذلك:
ولا ما دمسته وريّفت دمسه
ترى بغْرته كل يوم تزيدي
ثم ماذا عن ثيران محمد بن ثامره ؟
تقدر في المناطح والمحر، وتجيد الحرث والدمس وبسرعة فائقة، وبعد؟ إن لها مهمات أخرى سيكولوجية، تشرح الخاطر وتسر النظر وتبعث على الراحة والاطمئنان، ثم إنها هي التي تنبهه في حالة غفلته !
ما ينبهني إلا أصواتها وأفترح وآمن بها
ياسلام يا ما في هذا البيت من دلائل على عظمة هذه الثيران، أمن وفرح وشرح وتنبيه وتذكير وأصوات شجية حيّة. إذا فماذا بقي لمحمد بن ثامره بعد هذا ؟ يدعو الله بأن يستر عليها ويكفيها شر الحاسدين وأولاد الحرام:
الله أَبحقّ قول الله وأبحقّ برقٌ يلمع أسرا
أهدها وأكفها شرّ الهرايا وهرجة خبث قيل
كيل وأكتل ورا عمّالها ما الحبوب الناقية.
الطرف الأول
خذت ثورين تقدر في المناطح وتقدر في المَحّرّ
وإن بغيت الحرث والدّمس ما ني بقيلٌ ما تحظّه
ماينبهني إلا أصواتها وأفترح وأمن بها
الله أَبحق قول الله وأبحقّ برقٌ يلمع أسرا
أهدها وأكفها شر الهرايا وهرجة خبث قيل
كيل وأكتل ورا عمّالها ما الحبوب الناقية.
وبعد أن دعا متنبي الديار الجنوبية الله بأن يستر على “سانيته” الفريدة من نوعها، وأن يكفيها شرّ الحاسدين وكيد الكائدين، في توظيف وتركيب للمفردات لا يجيده إلا هو، بعد ذلك ختم لنا البدع بالخلاصة الوافية للقضية كاملة وهي أننا سنأكل من بعد عمل هذه الثيران، ونكتال حبوبًا صافية مصفّاة ناقية منقّاة.
بالطبع كلنا ندرك أن الثوابي استعار لنا موضوع الثيران ليصور لنا وبطريقة لا تستطعيها جميع القنوات الفضائية في عالم اليوم بما لديها من إمكانات، صور لنا قوة القبيلة التي رمز لها هنا بــ “السانية” التي كان غالبًا ما يلجأ إلى الترميز بها في حالة رغبته في التعبير عن القوة وشدة البأس:
حي ثورٌ لا نطح يقوى النطاح ** من نطحته تهتز ثيران البقوم
لا تضحكون على محمد يوم طاح ** يطيح في المحفل وفي الملقا يقوم
هكذا ثار بن ثامرة وثأر من الشامتين الذي ضحكوا عليه عندما سقط على الأرض أثناء المعراض الذي كان يرقص فيه!!
وهكذا يعبر عن القوة في قصيدة أخرى:
تحرث الفيحة والوسمية واللي معه زرعٌ تسوقه
نطحها يذهب الثيران متنصبات قرونها
وإذا كنا جميعًا نتفق أن الطرف الأول هو في الغالب تهيئة للطرف الثاني، فإن بن ثامرة هنا نجح إلى حد بعيد في جعل البدع والرد مترابطين بطريقة تجعلنا نقف كثيرًا أمام هذه اللوحة الثامرية العجيبة.
حيّ سوقٌ فروعه عند راشد وعرقه في البحر
هل أدركتم هذه النقلة التي أخذنا فيها محمد بن ثامره معه فيها إلى ما يريد من حيث لا ندري، توطئة في البدع عن قوة الثورين اللذين تتعدد مواهبهما إلى درجة لا تصلها ولا طائرات القتال الحديثة المتعددة الأغراض. ثم ماذا ؟ ماهي علاقة هذه الثيران بالسوق الضخم الشهير ..!!
حيّ: بداية ولا أقوى، مفردة لا تستعمل إلا بقصد المبالغة إلى درجة الأفراط في الإعجاب والاعتزاز بالشخص أو الشيء !
مهلًا لا تظنون فروع هذا السوق هي ما تعرفونه اليوم من فروع بندة والعثيم وما شابهها، لا . الأمر أكبر من ذلك، فالفروع التي يقصدها الثوابي هي أطرافه العليا التي تنتهي عند راشد أبا الرقوش شيخ قبائل زهران آنذاك، أما عروقه وأصوله فإنها في البحر الأحمر ..!! ياله من سوق !
هل تريدون مزيدًا من التحديد والتعريف لسوق الثوابي؟
الثلاثاء كفى الله شرّها من عناها مات حظه
الصورة مستمرة في التعبير عن القوة والبأس ليس للثيران التي تنطح وتحرث وتزرع وتدمس، وتنبه صاحبها وتطمئنه وتشرح صدره بل في سوق الثلاثاء الذي يموت حظ من يرد فيه بنية سوء أو يعنيه بهمز أو لمز لدرجة أنه لا يجد مكانًا في الأرض يمكن أن يأويه أو يأمن به:
لا سديدٌ ولا منعة ولا ديرة يأمن بها
لماذا يا ترى؟ لأن قبائل بني يوس إذا غضبت حسبت الناس كلهمُ غضابا فلن يجد من يأويه، ولا من يمنعه بأس قبائل:
أسوديّ وشدواني ودوقة وبيضان المعسرا
وبني عامر الأسقاف والخزمري حيدٌ ثقيل
شرّ الأحلاف مايخطيه وديارهم بالناقية
نعم إن شر الأحلاف لم يكن ليخطئ من أراد أن يتعدى على عقود سوق الثلاثاء أو يخل بشروطه، وهو في حماية هذه القبائل العظيمة. كما أن من يدخل في حمايتهم لن تصل إليه يد تمتد إليه.
والآن أعزائي هل أدركنا العلاقة بين سانية الثوابي وشدة بأسها وقوتها وتعدد إمكاناتها وعزة ومنعة وحماية سوق الثلاثاء الشهير؟
الطرف الثاني
حيّ سوقٌ فروعه عند راشد وعرقه في البحر
الثلاثاء كفى الله شرّها من عناها مات حظه
لا سديدٌ ولا منعة ولا ديرة يأمن بها
أسوديّ وشدواني ودوقة وبيضان المعسرا
وبني عامر الأسقاف والخزمري حيدٌ ثقيل
شرّ الأحلاف مايخطيه وديارهم بالناقية.