قال صاحبي: سمعنا عن التسميم الغذائي، لكن التسميم السياسي لم يسمع به الكثير، ما المقصود به، وكيف يتم، وما آثاره، ومن يقف خلفه، وكيف يتم ترويجه، وكيفية مواجهته؟!!
توجد نظريتان في الإعلام، أحدهما نظرية الغرس الثقافي، تهتم بالتأثير التراكمي طويل المدى لوسائل الاتصال، والأخرى نظرية انتقال المعلومات على مرحلتين، من (وسائل الإعلام) إلى قادة الرأي، ومنهم لبقية أفراد المجتمع؛ ولأن قادة الرأي -مختلف في تعريفهم- لديهم اطلاع سياسي أكثر من غيرهم، أصبح لكلمتهم صداها، وتداولها خصوصًا في ظل الاستخدام المرتفع لوسائل التواصل الاجتماعي.
تم استغلال هاتين النظريتين وغيرهما لغرس قيم سياسية دخيلة في نظام القيم الاجتماعية السائدة في مجتمع ما، وهي إحدى الأدوات الخطيرة التي تستخدم في الحرب النفسية، وتعاظم دورها كأحد الأسلحة الفاعلة في حرب الجيل الرابع، من خلال استبدال قناعات المجتمع بأخرى مصنوعة بطريقة ماكرة من حيث المسمى والهدف، ويتم العمل عليها من خلال مرحلتين، الأولى يتم نقلها إلى بعض (النخب) لتبنيها، وفي المرحلة الثانية يتم نشرها عبر وسائل الاتصال، والعمل على تكرارها حتى يبدأ أفراد المجتمع بتبنها وقبولها، وإحلالها محل قيمه وقناعاته التي كان يؤمن بها ويدافع عنها.
خذ على سبيل المثال عبارة “اتفق العرب على ألا يتفقوا” وأن الإسلام سبب تخلف الشعوب المسلمة، أو الربط بين الإسلام والإرهاب، وغيرها، ولا يختص التسميم السياسي بزرع قيم ومفاهيم سياسية مصنوعة بعناية، بل يستخدم للسخرية من قيم المجتمع، ومسلماته، ومحاولة بيان عيوبها، وقصورها، وعدم ملاءمتها للعصر، واستبدالها بقيم أخرى يؤدي تبنيها إلى نخر جسد المجتمع، وإصابته بالوهن، وفقدان القدرة على المقاومة، والاستسلام الطوعي للتبعية.
التسميم السياسي يتوجه فورًا إلى عقل الإنسان، وليس إلى جسده، وفي إحدى محاضراتي عن تجنيد الشباب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تساءلت في بدايتها، أيهما أذكى المعدة، أم العقل؟ ومن الطبيعي أن تركز معظم الإجابات على تفوق العقل على المعدة، ولكن الإجابة الصادمة، كانت أن المعدة أذكى من العقل!!، فالمعدة ترفض وتلفظ مالا يلائمها، بعكس العقل الذي يخزنه في باطنه، ثم يستدعيه مع وجود مؤثر خارجي، أو تكرار تعرضه لذات الأفكار، والرسائل، حتى يعتقد بها، ويتبناها، وعندئذ تحدث عملية إحلال لا شعورية، للقيم والمفاهيم الجديدة محل القيم والثوابت والمفاهيم القديمة كمحدد للمواقف، والممارسات المختلفة.
لوزير الدفاع الأمريكي رامسفلد، مقولة لم تأخذ حقها في الانتشار (انتهت الحرب العسكرية وبدأت حرب الأفكار)، والتي تعني ببساطة الهيمنة على الثقافات والشعوب، عبر النخب المزيفة التي زُج بها لتتصدر المشهد، وتتحدث بالشأن العام،-قرداحي نموذجًا- وتنقل بجهل، أو حقد، أو كليهما الرسائل التي صنعت وجهزت في مراكز الدراسات، ثم تؤمر هذه النخب العميلة بتمريرها لجمهورها، مستخدمة ما تحظى به من شعبية وقبول لدى شرائح من الجمهور، تستقبل دون وعي ونقد هذه الرسائل، ثم تتبناها، وتتداولها على نطاق واسع مع مجموعاتها المتعددة، والأخطر من هذا، أن ما حقن في عقل هذا المتلقي أزاح مصطلحات سليمة، وزرع أخرى مسممة، وملغمة برسائل فكرية خطيرة.
ألا تلاحظون معي، اختفاء الزي العسكري، وظهور البدل الأنيقة والفاخرة، ومن نوافذ الإعلام المتعددة برزت الوجوه المبتسمة، مدعية امتلاك المعرفة، تُقدم للمتلقي بوصفها صفوة الصفوة، المالكة للمعرفة، وأن ما يصدر عنها حقائق لا تقبل الجدل!، يجب الإيمان بها، وإحلالها مكان المعلومات والحقائق السابقة، التي هوجمت بطريقة ماكرة، وألصقت بمن يؤمن بها صفة الجهل، والتخلف، حتى يتم إرغامه على الصمت، أو العزلة، وهذا جوهر نظرية دوامة الصمت.
قلت لصاحبي:
حرب الصور والمصطلحات حلت محل الطائرات، والقنابل والصواريخ الذكية، واستبدل العسكريون بمثقفين، وإعلاميين، وأكاديميين، وباحثين، مدربين على مخاطبة المجتمعات المستهدفة، وقيادتها، بطريقة ماكرة؛ كما تقاد الأسماك التائهة في ظلمات البحار، بإرسال إشارة ضوئية تلهث خلفها تلك الأسماك المسكينة عديمة التجربة، ظناً منها، أنها وجدت ضالتها، فإذا بها في شباك الصياد!!.
3
بوركت د عبد الله العساف على هذا المقال الأكثر من رائع…..نعم نعم هو كذلك تماما
الله يعطيك العافية علي هذا المقال الرائع
شكر لكما
شهادة اعتز بها