المقالات

#الطّرف_الحفيّ!

يكلّمها طرفي فتومئ بطرفها
يخبّر عما في الضمير من الوجد

فإن نظر الواشون صدّت وأعرضت
وإن غفلوا قالت: ألست على العهد؟!

بلغة راقية وشفافة ومشفّرة، يتم الاتصال بين الشاعر ومعشوقته، يُستَخْدم فيها الطّرْف بدلًا من اللسان ! هو يكلّمها وهي تومئ له، هو يستفسر وهي تؤكد ! يتدخّل وكالعادة، أولئك الذين لا شغل لهم إلا قطع الاتصالات، فتضطر إلى الصدّ والإعراض لوقت ثم تُعيد التأكيد وتطرح السؤال؟!

هذا مشهد لشاعر عربي قديم، وأحمد بن جبران له مشهد آخر قد لا يختلف كثيرًا عما تقدم ..!

يقول شاعر الحب العذري:

أزْفرْ لمن عيني رويّت في مقامه
وسمعنا في كلامه

ماهوب لي، ريته يهرّج غيري أنا
وانحن أروينا العيانا

ساع التفت لي من على منكب يمينه
وإلا وأني قيس عينه

وفاق لي، ليْ همّ يدعيني من الرأس
وأصدر أيميْ له عن الناس

وأنا بغى قلبي يفارق عن جنوبي
وأنا بغى قلبي يفارق عن جنوبي

هل تعطش العين؟ الجواب؛ نعم. وإلا لما ارتوت عين أحمد بن جبران هنا ! وهذا طبيعي، فنحن نتكلم بلغة غير اللغة المألوفة؛ لغة الحب، لغة العيون ! لذلك فلا غرابة أن تظمأ العين، بل تعطش، ثم تروى ! إذا وجدت المقام الذي وجده شاعرنا هنا.

عيني روّيت في مقامه.

ثم ماذا ؟

سمعنا في كلامه.

هنا زيادة في الارتواء العشقي، فالأذن في بعض الأحيان تسبق العين في العشق، والموقف هنا أقوى، فالعين سبقت ورأت فارتوت، وتأكد ذلك بالسمع، فالكلام كما هو معروف له موسيقى مؤثرة، تلمس أرهف المشاعر وتغوص في أعماقها. لكن الملفت هنا، أن صاحب هذا المقام الساحر لم يكن له علاقة بالشاعر، بل بغيره، وكل ما كان يطمح إليه الشاعر هو ملء البصر.

ماهوب لي، ريته يهرّج غيري أنا
وانحن أروينا العيانا

لكن الصدف، وما أكثر ما يجمع بين العاشقين من الصدف، الصدفة جعلته يلتفت ناحية الأفق وإلى جهة اليمين بالتحديد، فإذا به وجه لوجه مع الرجل الذي زاده الله بسطة في أشياء تجعل مقاومة حواء أمامه تضعف وتتلاشى، بل وتأسرها لدرجة لا تستطيع إخفاءها كما هو الحال هنا. فقد أوشكت من كثرة هيامها به أن تصرح بذلك وتخرج عن لغة الطرف إلى لغة اللسان.

وفاق لي، ليْ همّ يدعيني من الرأس

ولولا أن شاعرنا هنا كان أكثر تعقلًا واتزانًا، لحصل ما لا تحمد عقباه، فما أسرع الواشون إلى أن يفعلوا به وبها مثل مافعلوا مع شاعرنا العربي القديم ومحبوته، ولكنه انتبه إلى وجودهم فاستمر في اتصالاته المشفرة ليخبرها عن وجود الحساد والعذال، رغم أن قلبه كاد يطير من بين جوانحه.

وأنا بغى قلبي يفارق عن جنوبي !

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button