أ. د. عائض الزهراني

الرحلة وثيقة تاريخية

الرحلة هي متعة التاريخ وتاريخ المتعة، ووثيقة المؤرخ ومكتبة العالم، وهي لذة المشقة، وعين الجغرافيا، ومنظار الفلك، ومسبار الأنثروبولوجيا، وجسر الخبرات بين الأمم، وهمزة الوصل بين الشعوب، والرحلة هي سفير السلطان، وحنكة السياسي، ورافد الأديب الذي لا ينضب.

وكأن الإنسان مخلوق رحالة، من عصر إلى عصر، ومن مرحلة إلى أخرى، يعيش حياته متنقلًا عبر الزمان والمكان، يرتاد الآفاق، ويخترق الأعماق، ما بين إسراء بالجسد، ومعراج بالروح، وسياحة بالعقل.

فالرحلة تمنح الباحث في التاريخ والجغرافيا، والسياسة والاقتصاد والأنثروبولوجي والآثار وغيرها من مجالات العلم، تمنحهم مصدرًا ثريًا وواقعيًا نابضًا بالحياة، بعيدًا عن رتابة كتب الوقائع، وملل كتب الحوليات، وجفاف كتب التاريخ الرسمي، ونفاق المؤرخين المكلفين، وجمود جامعي الأخبار وناقلي الروايات.

وعلى قدر ما تحمل الرحلة من أهمية، لا تخلو أيضًا من زلات، قد تكثر فتصبح مضللات؛ إذ نرى بعض الرحالة يأتي إلى قطر غريب عن مشاربه، وهو يحمل في جعبته خلفيته الثقافية والعقائدية، محبًا أو كارهًا، عميق الثقافة أو ضحلها، فاحص النظرة أو سريع الانفعال، متقلب الآراء والأحوال، بل ترى البعض يكذب مدعيًا أنه رأى ما لم يره الآخرون، واطلع من الأسرار على ما لم يستطع غيره، فيستجلب إعجاب القارئ والمستمع على حساب الحقيقة والواقع.

لكن بين أهمية الرحلة وخطورتها، يقف المؤرخ الحصيف المدقق صاحب النظرة الفاحصة، فيستشف الحقائق، ويستنبط الأسرار، ويستنتج ما وراء الأحداث، ويقرأ ما بين السطور.
وتعدُّ كتب الرحلات من أهم المصادر في الدراسات التاريخية التي يمكن الاعتماد عليها خاصة في تاريخ المدن لما تحتويه من معلومات مهمة ودقيقة في النواحي الجغرافية لما تقدمه من ثقل وتوصيف مناطق واماكن ترصدها بدقة متناهية كما أنها تصف الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ذلك لأن الرحالة يحاول الغوص في أعماق المجتمع الذي يزوره، وكتابة تفاصيل الحياة اليومية من عادات وتقاليد وملابس وزينة وغيرها, ولكن للأسف الشديد ما زال هذا المصدر مهملًا إلى حد كبير في دراساتنا التاريخية، ولم نتنبه بعد للأهمية القصوى, له فهو يذكر الناس بما كان عليه الأجداد والأهل, ولا يقطع الصلة بيننا وبين الماضي، فهو سجل كامل للأحداث.

لذلك تعدُّ الرحلات مفصلًا من مفاصل التاريخ؛ لأنه يحكى قصة الإنسان فى هذا الكون، ويعرض لنا مراحل تطور الفكر الإنساني في ميادين المعرفة، ويشهد على ذلك نص تاريخي للرحالة “بورك هارت” بواسطة التاريخ أقف على حافة الكون، وأمد ذراعي نحو منبع الأشياء فيبدو لى التاريخ شعرًا يدرك بالحدس الرحلة بصفة عامة انتقال فى الزمان والمكان، قصد الاطلاع على آفاق جديدة من المناطق المجهولة، وقد يصل الأمر بصاحبها إلى تسجيل أهم ما يتعلق بها فيما يصبح وثيقة هامة في مختلف المجالات، تفيد المؤرخ فى معرفة مرحلة دقيقة من تاريخ الجهة التي زارها الرحالة.

أ. د. عائض محمد الزهراني

نائب الرئيس لإتحاد الأكاديميين والعلماء العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى