لا يمكن تجاوز ما قال به “ميشيل فوكو” حين ربط ما بين الخطاب والسّلطة، على اعتبار أنّ الخطاب موضوع صراع من أجل الحصول على السّلطة؛ وهو بهذا، ليس فقط انعكاساً للصّراعات السياسيّة؛ بل هو المسرح الذي يتمّ فيه استثمار الرّغبة، فهو ذاته مدار الرّغبة والسُّلطة.
وإذا تجاوزنا “فوكو”؛ فإنّ جابر عصفور يقرّر بأنّ الخطاب هو الطّريقة التي تشكل بها الجمل نظاماً متتابعاً تسهم به في نسقٍ كليّ متغيّر ومتّحد الخواص، أو على نحو يمكن معه أَنْ تتآلف الجمل في خطاب بعينه؛ لتشكّل خطاباً أوسع ينطوي على أكثر من نصٍّ مفرد لتحقيق أغراض معينة.
وما يهمني في هذه المقالة تقرير حقيقة موداها أنّ أغلب الجماعات والتّنظيمات والحركات الإسلاميّة تعدّ من أبرز من يمارس خطاباً أيدلوجيا يفضي إلى السُّلطة، ويسعى إلى الاستمالة والتّأثير في وعي المتلقي، وغالباً ما يتبعه – كما يبرهن تأريخها ويثبته حاضرها- من اسقاطات فعليّة، وسوءات مهلكة.
فإذا كان الخطاب، أيّ خطاب، يقوم على ثلاثة أدوات لتحقيق فاعليته، وهي: المرسل، والرسالة، والمستقبل؛ فإنّ خطاب التّسمية يحمل في تجاويفه كلّ تلك الأدوات سواء بطريقة مباشرة ومُفْصحة، أو بدلالات مضمرة ومستترة، تكشفها مشيرات دالة في داخل نظامه اللّغوي، إنّه أشبه بمحيط ألسني مستقلّ بذاته -حسب تعبير عبد السلام المسدي-.
ويعدُّ تنظيم “داعش” من أبرز التّنظيمات الإرهابيّة احتفالاً واحتفاء بخطاب التّسمية -إنْ صحت العبارة- بوصفه خطاباً أيدلوجيّاً محمّلاً بالأبعاد العقديّة والدِّينيّة سعياً منه إلى الاستمالة والبرهنة على صدق ادّعاءه، وإنْ بدا في واقع الحال خطاباً مضلّلاً ومخادعاً في الآن ذاته.
ومن يتابع خطاب (تسمية) تنظيم (داعش) وسياقاتها المرحليّة التي مرّت بها، يلحظ أنّ التّسمية مرّت بأربع مراحل يفصل بين كلّ مرحلة وأخرى سياقات زمنيّة تخضع لمعطيات التّنظيم وهيمنته، وبسط نفوذه وسلطته على الأرض، تبدأ منذ عام 2001م وتنتهي أو تستقر في عام 2014م، ولا تخلو في كلّ مرحلة من مراحل خطاب التّسمية عند التنظيم من رداء الأدلجة العقديّة والدّينيّة؛ فضلاً عن ذلك الحضور اللّافت لروح الاستمالة صراحة وإعلاناً، وإنْ بدا واقعاً خطاب تضليلٍ ومخادعة.
لقد اتّخذ تنظيم (داعش) منذ انطلاقته الأولى -بصرف النّظر عن مدى ارتباطه بتنظيم القاعدة- خطاب تسمية في غاية القوّة، والتّأثير، والاستمالة -بعيدا عن سوء الفعل وفادحة الممارسة- وهو ما يلاحظ في التسمية الأولى حينما أطلق التّنظيم على نفسه (جماعة التوحيد والجهاد/ 2001م)، وهو ما يكاد ينسحب -أيضاً- على مسمّى (قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين) الذي أطلقه عام 2004م، ثمّ مسمّى (دولة العراق الإسلاميّة / 2006م)، وبعد سبع سنوات تقريباً -أي في عام 2013م- لا يكاد يتغيّر مسمّى التنظيم إلاً في حدود النّطاق الجغرافي مع البقاء على التّسمية ذات البعد الدّيني الأيدلوجي ليبدو بهذه الصيغة (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، ليستقرّ التّنظيم على مسمّى (الدولة الإسلامية) وتحديداً في 29 يونيو 2014م.
والملاحظ أنّ التّسميات التي يطلقها تنظيم (داعش) على نفسه في كلّ مرحلة من مراحله لا تكاد تخلو قط، من أبعاد عقديّة ودينية، ودلالات رمزية بوصفها الوسيلة الأنحج والأنجع في استمالة المتلقي والتّأثير عليه، ولهذا فإنّ أغلب التّسميات المتصلة بالتّنظيمات والحركات الإسلاميّة -ومنها تنظيم (داعش) الإرهابي- كثيراً ما تستظل بالمقوّم العقدي والدّيني في تمرير اسماءها وأحزابها وحركاتها منظوراً فيما يحمله خطاب التّسمية من حمولات دينيّة ودلالات أيدلوجيّة ورمزية سعيا لبقائهاً، وضماناً لتحرّكاتها؛ لأنّ المقوّم العقدي والدّيني يعدّ ركناً مكيناً من خطاب الاستمالة في المجتمعات الإسلامية، على اعتبار أنّه السبيل الأنجع في استمالة المتلقي والتّغرير به.
0