المقالات

ابن عوف الصغير

قبل ثلاثين عامًا كنتُ أدرس اللغة الإنجليزية مع صديقي في الثانوية في ولاية مينيسوتا الأمريكية. كنا ندرس على حسابنا الخاص إلى حين نتمكن من الانضمام للبعثة. كان هـو من عائلة ثرية في حين كنت أنا أسكن مجانًا في نادي الطلبة السعودي بمدينة مينيابلس (مقابل تنظيفه والعناية به).. وذات يوم زارنا في النادي طالبًا جديدًا تعرفنا عليه بسرعة كونه مثـلنا من المدينة المنورة.. كان أكبر منا بخمس سنوات ولكن عمره العقلي كان أكبر بكثير.. سألنا؛ كم مضى عليكما في أمريكا؟ قلنا: ستة أشهر.. عاد وسألنا: هل انضممتم للبعثة؟ قـلنا: مازالت عائلاتنا تصرف علينا.. قال متهكمًا: لكم في أمريكا ستة أشهر ومازلتم تعتمدون على مساعدة أهاليكم.. احـتدَّ صاحبي بسبب هذا التعليق وقال: وماذا تتوقع من شاب صغير مثلي يعيش في بلد غريب!؟ قال بنبرة واثقة: لو كنت مكانكما، لكنت الآن أصرف على عائلتي في السعودية…
اعتبرنا كلامه مبالغة وضربًا من الغرور.. ولكن خلال أسبوعين اشترى وباع ثلاث سيارات مستعملة.. وقبل نهاية الشهر اشترى تاكسي تقاسم أرباحه مع سائق أمريكي.. وخلال ثلاثة أشهر أصبح معروفًا بين تجار السيارات المستعملة في شارع “سيلنج ستريت”.. وخلال ستة أشهر أصبح شريكًا في مطعم إيطالي، ويحول الأموال إلى عائلته في السعودية…
وذات يوم عزمني دون بقية الطلاب لتناول العشاء في مطعمه الإيطالي الفاخـر (وأنا الذي كنت أكتفي بسندوتش بيض من الفود ترك المجاور).. شعرت أنه يريد محادثتي في مسألة مهمة، وبدأ بالفعل يمهَّد للموضوع بقوله: هل تعرف أخي فهد أنني أملك فندقًا في المدينة المنورة.. تعجبت وقلت: ولكنك صغير في السن.. قال: ورثته عن والدي.. ثم أكمل قائلًا: حين توفي والدي كنت في السادسة عشرة من عمري وكنت الابن الوحيد بين أربع بنات أكبر سنا .. وحينها كان لوالدي ثلاثة أخوة حاولوا الاستيلاء على الفندق كاملًا.. وذات يوم شاهدت والدتي تبكي من الظلم والقهر، وحين رأتني وقفت أمامي وأمسكت بكتفي قائلة: إن لم تفعل شيئًا سنعيش أنا وأخواتك في الشارع.. تأثرت كثيرًا وأقسمت على استعادة الفندق حتى لو دفعت حياتي ثمنًا لذلك.. وخلال أربع سنوات في أروقة المحاكم (وحبك المكائد ضد أعمامي) استطعت استعادة حقنا كاملًا.. بعد ذلك تركت إدارة الفندق لصديق أثق به، وقررت الذهاب إلى إيطاليا للحصول على وكالة “سباغتي” كنت أحبها كثيرًا.. لم أنجح في هذه المهمة ولكنني اكتشفت فرصة ذهبية بمعنى الكلمة.. لاحظت أن هناك فرقًا كبيرًا بين أسعار الحلي الذهبية في الدولتين..عدت للمدينة وطلبت من والدتي الزواج من ابنة أختها التي طالما عرضتها عـلي.. تزوجنا خلال أسبوعين وملأت يديها وحقائبها بالحلي “والبناجر” الذهبية وعدت إلى إيطاليا ــ ولكن هذه المرة بحجة دراسة اللغة الإيطالية…

************

ـــ أكمل حديثه قائلًا:
كنت أبيع الذهب بربح جيد ثم أعود للسعودية مجددًا لتكرار نفس الحركة.. وفي آخر مرة هـَّربت كميات كبيرة داخل مقاعد سيارة استوردتها من المدينة.. استمريت على هذا الحال أكثر من عام حتى بدأت الجمارك الإيطالية تشك في كثرة سفرياتي، فتوقفت وعدتُ إلى السعودية…
وبعد ثلاث حكايات مشابهة (تؤكد قدرته على كسب المال في أي مكان) قـلت أنـا: “هات من الآخر” ماذا تريد مني؟ .. قال: بما أنك ستعود للمدينة سأبعـثك إلى تاجر ذهب أعرفه لتحضر لي شيئًا مهمًا.. قلتُ متهكمًا: هل ستملأ يدَّي أيضًا بالذهب.. قال: لا، أفكر بـسيارة كاملة.. توترت فعلًا وقلت بعصبية: “يا أخي أنت جاي تدرس ولا تأسس عصابة؟”.. عاد بكرسيه إلى الوراء وقال: جاي أشتغل بما يُرضي الله..
تملكني الخوف واعـتذرت منه بحجة عـدم عودتي إلى أمريكا مجددًا لـعدم حصولي على “بعـثة”…
وبعد عـدة أشهر كنت في المدينة المنورة برفقة والدتي سائرين نحو الحرم النبوي الشريف.. وبالصدفة قابلته أمام فندقه (في باب المجيدي) برفقة ثلاثة عمال يعملون على تفكيك سيارة مرسيدس صغيرة.. كانت مقاعدها وأبوابها ومصابيحها مرمية على الأرض فـارتبك لأنني الوحيد الذي يعرف سـره.. حاولت تلطيف الموقف وسألته مازحا: “مـثـل حركة إيطاليــا؟”.. حاول الإنكار بقوله: لا لا، أبدا ، أنا الآن أملك مطعمين وشركة تكاسي في أمريكا ولا أحتاج لتهريب شيء في السيارة.. أدرك أنه أخطأ بذكر كلمة “تهريب” فـغير الموضوع بسرعة، وبدأ يسألني عن أحوالي وأيـن أعمل هذه الأيــام…؟
في ذلك الوقت كنت ما أزال عاطلًا عن العمل فـشعرت بالإحراج وانسحبت معتذرًا بوالدتي، ولكني وعدته بزيارة قـادمة.. ورغـم أنني لم أقابله بعـدها، لم أنسَ يومًا شخصيته الاستثنائية التي جعلتني أطلق عليه في أمريكا (ابن عوف الصغير)…
… وبطبيعة الحال، هذا التشبيه مع الفارق؛ فــعبد الرحمن بن عوف صحابي جليل هاجر إلى المدينة بعدما ترك ثروته في مكة.. كان لا ينزل في قرية إلا ويصبح أثرى من أهلها، وحين هاجر إلى المدينة عرض عليه الأنصار مشاركته في أموالهم وأرزاقهم ولكنه رفض وقال: “دلوني على السوق”.. وحين توفي بعد 32 سنة من الهجرة كان أغـنى رجل في المدينة، وكان معظم أهـل المدينة شركاء في مالـه هــو…
… وباستثناء تهريب الذهب؛ أهدى هذه القصة لكل شاب مازال ينتظر الوظيفة…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى