باتت الاختبارات التي تُعقد في مراكز قياس في جميع مناطق المملكة شبحًا وغولًا يقف في وجه كل من يدخل في دهاليز تلك المراكز الظلماء، سواء كان من المعلمين الذين أفنوا زهرة شبابهم ما بين السبورة والأقلام من أجل خدمة أبنائهم الطلاب، أم من خريجي الجامعات الباحثين عن فرصة عمل بعد سنوات من الجد والاجتهاد أو حتى على مستوى خريجي الثانويات العامة، والتي باتت شهادتها مجرد حبر على ورق لا قيمة لها إلا في إثبات حضورها على استحياء بين نتائج القياس والقدرات !
وما اختبارات الرخصة (المهينة) أقصد (المهنية) للمعلمين إلا أحد هذه الاختبارات التي تعقد في تلك المراكز، والتي في ظاهرها التطوير والرقي بالتعليم، وفي باطنها قتل للطموحات، وتحطيم للمعنويات، وقتل للإبداع في الميدان مستذكرين في هذا الشأن ما قالته امرأة من بني هزان يُقَال لها أم ثَوَاب:
أبَعْدَ شَيْبِيَ عِنْدِي يَبْتَغى الأَدَبَا!
فبعد سنين طوال من الخدمة في الميدان هاهم رجال التعليم من مختلف الأعمار، ومن مختلف التخصصات، وفي مختلف المناصب التي يتقلدونها تجبرهم وزارتهم لأسباب ودوافع غير معلومة بالعودة إلى مقاعد الاختبارات؛ وكأنها مكافأة لهم على إخلاصهم وخدمتهم وجهودهم التي يبذلونها للعلم والتعليم في كل مكان وزمان، مع العلم أننا ندرك تمامًا أنه ليس هناك كمال في أداء أي عمل في مختلف قطاعات الدولة، وعلى رأسهم من وضع وإعداد هذه الاختبارات فالكمال لله -عز وجل-، أما البشر فيعتريهم من النقص ما يعتريهم؛ فهم ليسوا ملائكة بل بشر يخطئون ويصيبون، ويجتهدون ويجدون، ولا يلام المرء بعد الاجتهاد.
ومن هذا المنطلق فقد تعالت الكثير من الأصوات التي تنتقد تطبيق مثل هذه الاختبارات على المعلمين، ووضعهم في قفص الاتهام؛ وكأنهم سبب كل مصائب وجرائر التعليم وتقديمهم كبش فداء لأخطاء تعلمها الوزارة جيدًا وتعلم مسبباتها ليس للمعلمين فيها ناقة ولا جمل، مع العلم أن هناك سبل أنجع وأنجح في تطوير قدرات المعلمين والرفع من مستوياتهم كإلحاقهم بالدورات التدريبية الممنهجة التي تقام في الجامعات ومعاهد التدريب المتطورة، وفق أسس علمية مدروسة من أجل صقل مهاراتهم وإكسابهم الخبرات؛ خاصة لمن هم على رأس العمل في الميدان مع العلم أن كل ما تقدمه الوزارة حاليًا من دورات أثناء العام الدراسي داخل أروقة إدارات التعليم ومكاتبها في جميع مناطق المملكة، ليس إلا دورات تدريبية متواضعة تغلب عليها الاجتهادات الفردية، ويذهب نصف زمنها في مناقشة هموم ومشاكل الميدان التي طفح بها الكيل والميزان!
وهو ما يثير عددًا من التساؤلات حول الفائدة الفعلية من هذه الاختبارات التي تتزعمها وتتبناها مراكز «قياس» التي تدّعي أنّها غير ربحية، والتي باتت تعد إحدى المثبطات للهمم في عصر سادت فيه الأمم القمم بالاهتمام بالتعليم بيئة ومناهج ومعلمين.
وختام القول؛ فإننا إذا ما أمعنا في هذه الاختبارات التي تعقد في مراكز قياس المختلفة؛ فإننا نجد أنها وضعت بطريقة مستفزة لكل من يؤديها من المعلمين بدءًا من سحب كل متعلقاتهم الشخصية ومعاملتهم كطلاب دون أي اعتبار لمهنتهم؛ وكأن الثقة انعدمت فيهم مع العلم أن المجتمع بأسره يأتمنهم على تربية الأجيال وتعليمهم، ومما زاد الطين بلة سوء إخراج وطباعة كتيبات الاختبارات وأوراق الإجابات من حيث طول السؤال وصغر حجم الخط دون مراعاة لتقدم سن بعض من يؤدي تلك الاختبارات، وتدني مستوى النظر عند البعض منهم، ناهيك عن المقاعد التي يجلسون عليها، والتي لا تناسب مكانتهم العلمية ولا تناسب سن البعض منهم، وكذلك الاستفزازات التي يقوم بها مراقبو القاعات؛ وكأنهم يتشفون فيمن علمهم يومًا ما للقراءة والكتابة، وكأن العملية مقصودة من أجل زيادة التوتر لدى من يجلس على تلك المقاعد الصلبة؛ فتقل عملية التركيز مع كثرة تلك المشتتات، مما يعطي إشارات واضحة بأن هذه الاختبارات لا تعدوا كونها اجتهادات من هذه المراكز، والتي لم ترقَ إلى إمكانية الوثوق بفكرتها ومنهجيتها.
وخزة قلم:
لا أعلم ماذا سيقول شوقي لو بُعث من مرقده، ورأى بأم عينيه ما يُحاك خلف الستار للمعلمين الذين تغنى بهم في قصيدته المشهورة والتي كان مطلعها:
قم للمعلم وفه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا