لا أعتقد أن هناك أمة فيها عدد من الشعراء مثل الأمة العربية، وهذه ميزة لهذه الأمة التي تمتلك (اللغة الشاعرة) كما سماها عباس محمود العقاد في كتاب بهذا الاسم، وكما سماها أستاذنا الدكتور عبدالرحمن رأفت الباشا -رحمه الله- في برنامج كان يُذاع من إذاعة الرياض لعدة سنوات بهذا الاسم، ووجود الشعر في أمة العرب دليل على الحيوية ورهافة الإحساس وتدفق المشاعر، والشعر يعتبر أفضل قناة للتعبير عن ذلك، وقد أشار إلى هذه الظاهرة الشاعر الشعبي الكبير د. عبدالواحد بن سعود الزهراني، عندما قال:
العالم كله عقول وعندنا شاعر لكل مواطن
انشدوا تاريخنا وش عندنا غير المعلقات
لا شك أن عندنا الكثير غير المعلقات، وعندنا إسهامنا في الحضارة الإنسانية في العلوم والمعارف المختلفة، ويكفي مطالعة الكتب التي تشهد بذلك في الشرق والغرب، ومن ضمنها كتاب (ألف اختراع واختراع) من تحرير أ.د.سليم الحسني أستاذ الهندسة في جامعة أكسفورد وفريقه، وكتاب (شمس العرب تسطع على الغرب) للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكة، ولكننا اليوم في القرن الحادي والعشرين، ولدينا بعض الشح في الإنتاج الفكري الراقي الذي يمكن أن يسهم في مسيرة الحضارة العالمية، ولعل السبب في ذلك أننا أمة مفعول بها منذ قرنين من الزمان، بالاستعمار المباشر وغير المباشر، وبالغزو الفكري والثقافي والإعلامي، وبسياسة فرَّق تسد وبغيرها من عوامل التفرقة والتشظي والإنهاك، وأعجبني في هذا الجانب دعوة المفكر المغربي طه عبدالرحمن في الكتاب المعنون (الحوار أفقا للفكر) وهو عبارة عن لقاءات ثقافية تم جمعها ونشرها في هذا الكتاب، ويذكر فيه أنه كان يقول الشعر إلى أن وصل عمره اثنتين وعشرين سنة، وجاءت حرب 67 التي عُرفت بحرب النكسة، والتي فقد فيها العرب سيناء وغزة والضفة الغربية والجولان، ورغم ذلك ظل الناس يدعون من تسبب في ذلك بالزعيم الأوحد، وقال طه عبدالرحمن بأنه بعد تلك الحرب قرر أن يعتزل الشعر، وأن يركز على الفكر، والذي دعاه إلى ذلك تساؤله عن كيف تمت هزيمة أمة كبيرة من قبل دويلة صغيرة، وقال بأن السبب في ذلك ربما يكمن في أنها تملك فكرًا أقوى من فكرنا، ومنهجًا أعمق من منهجنا، وهذا يشبه ما فكرت فيه اليابان بعد أن أجبرها القائد البحري الأمريكي فردريك بري عام ١٨٤٨م على توقيع اتفاقية تجارية معها؛ حيث صمم اليابانيون على امتلاك الأسباب التي جعلت بري يتفوق عليهم ويجبرهم على توقيع الاتفاقية، وبدأت اليابان خطواتها الثابتة للنهوض والتنمية والتفوق في عام ١٨٧٦م بقيادة الإمبراطورية ميتسو هيتو، وكانت اليابان تبتعث بعض طلابها إلى مصر التي بدأت طريق النهوض قبل اليابان.
عندما عاد طه عبدالرحمن من بعثته في فرنسا ركَّز على تعليم الفكر والمنطق، ولكنه عاد إلى الشعر بصورة جديدة تلبس لباس الفكر وتحمل المسؤولية الاجتماعية حيال قضايا الأمة، ولا شك أن الشعر له دور اجتماعي في نهضة الأمم وتحفيزها لمواجهة الصعاب وبناء الأوطان وتنميتها لتحمل مسؤولياتها في الحياة، ولعل قصيدة عمر أبو ريشة -رحمه الله- (أمتي) أبرز مثال على هذا النوع من الشعر، والشعر العربي قديمه وحديثه مليء بالنماذج المشابهة، وقد لفت نظري أمر آخر وهو أن عددًا كبيرًا من المفكرين كانوا شعراء، منهم المعري، وابن خلدون، والعقاد، والقصيبي، وحافظ إبراهيم، والرافعي، وميخائيل نعيمة، وجبران ومطران، وغيرهم.
ورغم هذا نحن في حاجة إلى زيادة جرعة التفكير لتوازي الشعر، و(التفكير فريضة إسلامية) كما يرى العقاد في كتاب له بهذا العنوان، والتفكير له محفزاته ويأتي في مقدمتها القراءة والأمر بها نزل في أول آية في القرآن الكريم، (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)) ومن محفزات التفكير التأمل في خلق الله وقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تحث على ذلك، ومن الجوانب التي تساعد على استمالة التفكير الحوار وتبادل الأفكار، والمجادلة بالتي هي أحسن، والقرآن مليء بالآيات التي تشير إلى الحوار مثل: قال، وقالت، وقالوا، وقلنا.
ولكن التفكير يحتاج إلى تربية وتوجيه وتنشئة للجيل الصاعد، يأتي في مقدمة ذلك زرع حب القراءة في نفوسهم عن طريق البرامج الخاصة بذلك، ورصد الجوائز، وتوجيه الشباب إلى الكتب التي تعلم التفكير، وتغذيه، ويجب أن ندرك أنه لم تنهض أمة إلا بوجود مفكرين يوجهون بوصلتها، ويرسمون لها طريق النهوض، ومكافحة الأمراض الاجتماعية المختلفة، وأن تكون الصلة وثيقة وقوية بين صناع القرار والمفكرين الكبار، وكثير من الدول لديها ما يسمى صهاريج التفكير، وتقدم دعمًا للأقسام المتخصصة في الجامعات؛ لتقديم رؤى فكرية حول الكثير من القضايا، والله الموفق.