كم يصعق المرء من تقلبات الزمن وغدر الأيام لكن هذه موجة تغشى الأمم بل هي سنة كونية متناوبة عبر العصور، {وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ}.. ولربما تأتي كعقوبة إلهية {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال : 53] ذلك بأن النعم تدوم بالشكر والعرفان كما أنها تزول بالكفر والنكران {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [ابراهيم : 7]
ولعلنا نَذْكر ونُذَكِر ليس شماتة بل لجلب العبر والإتعاض بالأمم السابقة واللاحقة.. ولنا في تلك المدينة الزاهية المزدهرة في ثمانينات القرن الماضي درس ماثل- رأي العين- إذ كانت بيروت محط أنظار العالم، لأنها إذ ذاك ميدان الثقافة والأدب ومئزر العلم والمعرفة لم يكن الأمر مقتصرا على مناهج ونشاطات الجامعة النظامية وحسب بل في كل ردهات المدينة ومقاهيها فتولد ذلك الحراك عن نتاج علمي وأدبي تخرج على إثره علماء أفذاذ ومفكرين وسياسيين وأدباء تقلدوا مناصب عليا، كما حازوا الصيت والتقدير؛ فضلا وعلما.. لم يكن الناس إذ ذاك ملائكة مقربين ولا أصفياء مكرمين بقدر ماكانوا منزهين عن الطائفية البغيضة والعنصرية المقيته والفُرقة المميته، وقبل هذا وذاك كانوا أحرارا مستقلين، لم يتلوثوا بنجس الفرس ولا غدر الملالي ولم (يطيروا في العجة) لتلقي بهم تلك العواصف في غياهب الظلَم و متاهات التشتت والضياع بعد أن أُعمي عليهم بلفائف سود قاتمة أُسدلت على أعينهم بل على عقولهم ليضحوا منقادين مغسولي الأدمغة منزوعي الكرامة والحرية، ولينحدر بهم من شرفات العلم ونور المعرفة وحِلق الأدب إلى مجامع المزابل بين أكوام من (القمامة) ألقت بها أحزاب الكفر والفجور بغياً وعدوا، وليتحولوا بين عشية وضحاها من أبناء بارين؛ بانين بكل تواد وتعاون إلى رعاع منقادين وخدم للخمئينية الفاجرة ووكلائها المجرمين يزرعون الحشيش بين ردهات المطابع وجنبات المكتبات وفي ساحات المناهل التعليمية؛ لتستبدل أصباغ المحابر بقاتم الدماء تمزيقا للأشلاء إذ تتناثر على أرصفة المشاة وطاولات العلم لتتمزق معها أمهات الكتب ودواوين الأدب ومعزوفات الشعر، ولتتقطع معها قلوب الحرائر أسفا وحرقة على الفقد، كما تمزقت جدائل الثكلى نياحاً على أرواحا أهرورقت وأنفسا أزهقت تفجيراً أو تنكيلا من حزب الشيطان الرجيم الذي يترآسه المعمم الأعجمي؛ انتماءً وهوى، العربي لسانا، المنحرف عقديا وفكرا عن منهج الحق وطريق الهداية في غواية لا يؤمل بعدها رشداً، أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا!.
قد بلغت بنا القناعة والوعي مبلغا يجعلنا لا نستغرب من المنتمين لهذا التنظيم الرسمي أو الحزبي أي تصريح حتى وإن أختلفت مشاربهم وعقائدهم إلا أنهم يدينون؛ ذلةً وخسةً للملالي وأنَّى للعبودية أن تنفصم عمن وقع تحت أسرها المهين!!!
{وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ۗ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}.
ذلك بأن الكرامة إذا سقطت سقط معها كل ما ينتمي للإنسانية من معاني الخير والبر والإحسان، وأضحى المستعبَد في كنف المستعبِد معتقلا عقلا، ومأسورا عقدا، ومهزوزا نفسا، ومكبلا روحا، فلا يجد بدا من الرضوخ لما يملأ عليه طواعية وكرها بل خنوعا وخضوعا دون أن يفيق فيتحرر أو يرفع رأسه بعد أن طاطأ به في حضرة الشيطان اللعين في وعدٍ أن لا يرفع بصرا ولا يفيق بصيرة ولا ينطق إلا زوراً وبهتانا!!
يالهم من دولة وشعب وقعت تحت الأسر، ويالهم من دولة خطفت من عصابات إجرامية لا تلقي للنظام أي اعتبار بل تستمد من تغافل العالم وتماهي الأمم المتحدة قوة وسلطوية تستحوذ من خلالها على مقومات الحكومة ومقدرات الشعب فلا تبقي ولا تذر!
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا:
أليس من مهام ومسئوليات جامعة الدول العربية التحرك لإنقاذ وتحرير أي بلد عربي يقع تحت أسر الإحتلال الأجنبي أو المطامع الخارجية لتدعو لتشكيل جيش عربي يعيد للبنان كرامته وحريته واستقلاله وليطرد تلك العصابات العميلة والخيانات المتجذرة والإعتداءات المستبيحة لحرمته كي يعود عربيا أبيا شامخا كما كان عظيما؟!