التملق هو أحد الأمراض الاجتماعية المنتشرة منذ القدم وفي كافة المجتمعات، وفي هذه الأيام يعدُّ التملُّق أحد أخبث الأسقام الوظيفية المتفشية في بيئة العمل، والتي تُعاني منها المؤسسات الحكومية والخاصة على حد سواء؛ حيث ينطلق أصحاب هذا السلوك المشين من القاعدة الميكافيلية: الغاية تُبرر الوسيلة، ولذا فإن المتملق يتودد إلى المسؤول بكافة الطرق، وبمختلف الوسائل، ويقدم الكثير من التنازلات التي قد تصل إلى الحد المُهين الذي تداس فيه كرامته وتمتهن فيه نفسه، ولكن مع ذلك فإنه ينطلق غير مبالٍ في رحلته نحو التسلق محلقًا على جناح النفاق الاجتماعي من أجل الوصول إلى أهدافه والحصول على مبتغاه. ولا شك في أن ضعف الوازع الديني لدى المتملق يأتي في مقدمة أسباب انتشار سلوك التملق الوظيفي في بيئة العمل؛ إضافة إلى الخلل في عملية التنشئة الاجتماعية والنفسية، الناتج عن تقصير الأسرة والمؤسسات التربوية عن القيام بدورها في بناء شخصية الفرد المتملق. كما أن المشكلات الأسرية تلعب دورًا كبيرًا في الاستقرار النفسي والعاطفي للفرد، وتبقى الصداقة والزمالة ومحاكاة الآخرين فيما وصلوا إليه من مراكز وظيفية مرموقة عن طريق التملق هي أحد العوامل التي تقود المتملق لتقليد غيره كي يصل إلى ما وصلوا إليه.
وأيًا كانت الأسباب فإن انعدام ثقة الشخص في إمكاناته وقدراته وشعوره بالفشل في تحقيق أهدافه وطموحاته من خلال المنافسة الشريفة والطرق المشروعة؛ يجعله يلجأ إلى استخدام التملق بكافة أساليبه الملتوية وبمختلف أدواته من كذب وانتهازية وغدر وخيانة ووشاية وتقلب وتلون بحسب الظروف والمعطيات التي تختلف من موقف إلى آخر إلى درجة أن يتخلى عن كافة القيم الأخلاقية وقواعد السلوك الإنساني والوظيفي؛ من أجل تحقيق مبتغاه، وكل ذلك لم يكن ليحدث لو لم تتوفر له بيئة إدارية خصبة لانتشار التملق الإداري تحت إشراف إدارة نرجسية ساذجة تشجع المتملقين وتعشق التملق إلى حد الهوس، حتى أصبح التملق معيارها الأول إن لم يكن المعيار الوحيد في تعيين وتكليف الموظفين ومكافأتهم وتقييمهم وترقيتهم. هذه الإدارة همها الأكبر أن تجمع حولها كل من يصفق لها ويؤيدها في كافة قراراتها مهما كانت خاطئة. فهي لا تحب من يُصارحها بعيوبها أو يتحفظ على قراراتها فما بالك بمن يعترض أو يرفض ذلك. كما أن هذه الإدارة لا تستشعر شموخها في برجها العاجي إلا من خلال وجود الشخص المتملق من حولها، ممن هانت عليه نفسه ورضي بحياة الذل والهوان بعد أن دفع كرامته ثمنًا، وهو يتسوَّل ويتوسل المسؤول من أجل كسب مودته، ومن ثم نيل ما يطمح إليه من المآرب والمكتسبات التي يراها بحوزة سيده المدير، والتي يدرك أنه يفتقد أهليتها كما يدرك صعوبة الوصول إليها بالطرق المشروعة.
إن داء التملق ليس له علاج ناجع سوى التصدي للمتملقين وفضحهم، والتشهير بهم في محيطهم الوظيفي، وتعريتهم أمام مجتمعهم، وقبل ذلك وقوف أصحاب الكفاءة بشجاعة وحزم في وجه المتملق إليه، والمطالبة بحقوقهم التي يعبث بها، ويقوم بتوزيعها على المتملقين بدون وجه حق، فإن لم تكن هناك جدوى؛ فليتجهوا إلى الجهة المسؤولة عن ذلك المدير النرجسي عاشق التملق، وإلا فهناك جهات رقابية مهمتها مكافحة الفساد يجب التواصل معها والإبلاغ عن وضع داء التملق في مؤسستهم. ولن يقوم بهذه المهمة إلا من اتَّصف بالشجاعة والصدق والأمانة والإقدام والصراحة، والجرأة في قول الحقيقة، والترفع عن كافة السلوكيات المشينة التي تنبع من الأخلاق الوصولية النفعية. ولذا يقع على عاتق مؤسسات التنشئة الاجتماعية وعلى العلماء والقادة والمفكرين والدعاة وكذلك الكفاءات من أبناء المؤسسة، دور كبير في الحد من هذه الظاهرة التي تفشت، وترسخت في كل زاوية من زوايا بيئة العمل. لكن في ذات الوقت يجب علينا أن نميز بين التملق والمجاملة؛ فالمجاملة هي تصرف لطيف ومهذب يعبر عن الثناء والشكر والتقدير، وغالبًا ما تكون المجاملة حقيقية وصادقة، والشيء الأهم في المجاملة بأنها لا تهدف لتحقيق مصلحة خاصة؛ وإنما هدفها في المقام الأول مراعاة مشاعر الناس وتطييب نفوسهم وجبر خواطرهم ومن ثم تحفيزهم لمزيد من العطاء. لكن هناك مشكلة أخرى وربما يكون خطرها على الكفاءات في أية المؤسسة أشد من خطر التملق وسيعاني من تلك المشكلة جل العاملين في القطاعين الحكومي والأهلي؛ وبخاصة بعد اقتحام المرأة وبقوة لسوق العمل؛ حيث لن يكون التملق هو الآفة الوحيدة التي تواجه الموظفين؛ وإنما سيكون التغنج هو الخطر القادم الذي سيزيد من معاناة الكفاءات، ويهدد مصالح المتملقين أنفسهم!!
خاتمة:
مع الاعتذار للشاعر الراحل عبد الرحيم محمود -يرحمه الله-؛ فلسان حال المتملق يقول:
سأحمل كرامتي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى
فأما تملق يسر المدير
وأما هياط يغيظ العدى
————————-
عضو هيئة التدريب بمعهد الإدارة العامة.
شكراً لقلمك الحر والصريح،
في أكثر من مناسبه احضرها مع مدراء عموم أجد المتملقين بين وضعين الابتسام طوال الاجتماع أو هز الرأس بأن كلام من أعلى منهم قرآن منزل.
قاتلهم الله