المقالات

مفاهيم إعجازيّة .. المعجزة والآية

تتسم ألفاظ أهل العلم التي يلقونها على سبيل المجاز وفي غلالة من الغموض بالسخاء والثراء الدلالي، وهي الألفاظ التي ذكر عبد القاهر أنها كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء، مما يثري العلم ويجعل له نسبًا يمتد من السابق إلى اللاحق، وهذه إحدى أهم سمات التعبير المجازي في لغة العلم؛ لأن اللغة المباشرة تستفرغ كل طاقتها فور التعبير بها عن المراد، في حين تحتفظ اللغة المجازية بقدر كبير من الطاقة التعبيرية والإيحائية لمن يأتي لاحقًا، كالنبع تمامًا حين يحتفظ بالكثير من الماء في تضاعيف الأرض.
ومن أكثر أهل العلم المعاصرين الذي حفلوا بهذه اللغة وكشفوا عن خبيئها ومكنوناتها الأستاذ الجليل محمود شاكر، فكان بمنهجيته في اصطناع منهج التذوّق يسبر لغة العلم كما يسبر لغة الشعر، وله تجربتان فريدتان في هذا الباب.
التجربة الأولى في الشعر حين تدلّى إلى أعماق ابن أخت تأبط شرّا، وكاد أن يشاركه، إن لم يكن فعل ذلك، فيما يهجس به أثناء معالجة قصيدته، بل وكان ينصت معه إلى هسيس اللغة، وقدّم من خلال كتابه “نمط صعب ونمط مخيف..” منهجًا في قراءة الشعر غاية في الدقة والإحساس والإنصات للغة الشعر من داخلها بدءًا بالمفردة، وانتهاء بالبناء تركيبًا وترتيبًا.
وأما التجربة الثانية، وهي تجربة علمية، ففي سبره مصطلحات إعجاز القرآن، في المدخل النفيس الذي كتبه في تتبّع وتقصّي مفهوم الإعجاز وكيف نما وترعرع في أحضان المتكلمين، ثم كيف انتقل منهم إلى أن تشجّر في شجرة البلاغة، ومنها إلى قضية الإعجاز، وفي هذا السياق أبان عن ضرورة التفريق بين المصطلحات والمترادفات، ومن ذلك تفريقه بين الآية والمعجزة، وكشفه عن سرّ غلبة اللفظ الأخير (معجزة)، في سياق الجدل الكلامي، على لفظ (آية) الذي هو أكثر أصالة من لفظ معجزة وما تحدّر منه من ألفاظ، كالإعجاز، والتحدّي.
والذي لفتني في معالجة شاكر أمران:
أولًا: تأكيده على ما استقرّ عليه أهل العلم اصطلاحًا في مسار إعجاز القرآن، وإطباقهم على هذا المصطلح الذي شاع في أوساطهم.
ثانيًا: احتفاله بمفهوم الآية ومجاري استعمالاتها الثمانية منذ العصر الجاهلي، وهذا الباب فيما أرى هو موضع المراجعة في هذا العلم الشريف، وفيما يخص البلاغة أيضًا، وأظنه هو الذي أومأ به شاكر إلى تجديد النظر، وكأنّه من قبيل الرمز والإيماء والإشارة في خفاء، أو التنبيه على مكان الخبيء ليطلب، وموضع الدفين ليبحث عنه فيخرج، بتعبير عبد القاهر.
وهذا الموضع الذي أشار إليه شاكر هو موضع الإبهام الثاني الذي لم يكشفه عبد القاهر، وعبّر عنه بقوله:” تنقطع دونه الأطماع وتحسر الظنون”، لأنه إشكال أحيل إلى إبهام، بتعبير أبي سليمان الخطابي، أما الإبهام الأول، فقد كشف عنه عبد القاهر بما لا مزيد عليه، وهو إبهام مصطلح البلاغة، أو لفظ البلاغة، الذي استشكله الخطابي، وورد في ألفاظ أهل العلم بدءًا من الجاحظ، فهذا الإبهام أزاله عبد القاهر وفجّر ينابيعه وفتّق أكمامه بما ذكره من المصطلحات الثمانية “النظم والترتيب، والتأليف والتركيب، والصياغة والتصوير، والنسج والتحبير”.
بناء على ما سبق أرى أن إعادة النظر بوعي في تاريخ الإعجاز لابد أن يبدأ من لفظ الآية، فهذا اللفظ أصيل وهو من منظومة الألفاظ القرآنية ومن صميم هذا البيان العليّ، وهو فيما يبدو، ما تشير إليه معالجة شاكر لهذه القضية، إن لم تكن على وجه التصريح، فعلى وجه التنبيه على مكان الخبيء ليطلب وموضع الدفين ليبحث عنه فيستخرج.
وأعتقد أن طه عبد الرحمن ممن طرقوا هذا الموضع بنباهة عالية وإضافة فريدة تستحق النظر والمتابعة لكشف الحجب عما يستكنّ وراء المفهوم القرآني الذي تحوّل في الرؤية القرآنية إلى دلالة جديدة في خصوصية هيمنت على الدلالات السابقة التي كشف عنها شاكر في الاستعمال العربيّ، فالقرآن بمنظومته الدلالية ورؤيته للعالم أعاد تأثيث وترتيب العالم اللغوي للعرب وفتح لهذا العالم الأفق الكوني فصارت الآية مدرجا من مدارج الكون كما هي منزلة من منازل الجنة، وهي قبل ذلك وحدة من وحدات السورة القرآنية، فتكون على هذا النسق منتظمة في مسار تصاعدي يرتقي مرتبة بعد مرتبة ومرقبًا بعد مرقب حتى تبلغ بصاحبها إلى الذروة العليا، كما ورد في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي؛ “يقال لقارئ القرآن اقرأ ورتّل وارتق كما كنت ترتّل في الدنيا فإنّ منزلتك عند آخر آيةٍ كنت تقرؤها”.
فها هنا نسق تصاعدي:
آية كونية —- آية قرآنية — منزلة أخرويّة

فالناظر في الكون يستجلي به الآيات التي هي علامات دالة على خالقها، والناظر في القرآن يتدبّر به هذه الآيات في مستواها البياني الذي يكشف عن آيات الكون وأسرارها، فإذا بلغ هذه الرتبة ارتقى بكل آية منزلة من منازل الجنة فكانت له الآية امتدادا إلى غاية وجوده وأقصى مراده؛ حيث تبلغ منزلته بحسبما له من حظ ونصيب من القرآن تلاوة وتدبُّرا.
وبذلك يظهر لنا أن مفهوم الآية أكثر سخاء وأوسع أفقًا من مفهوم المعجزة الذي يحيل على الإعجاز، ويكتفي فحسب بالوقوف عند البيان القاهر، دون أن يغمره البيان الباهر بنوره وتجلياته التي تترقّى بالدارس مرقبًا بعد مرقب، وتصعد بتالي القرآن منزلة بعد منزلة، كما يتضح أن الآية مصطلح مفتاحي وكلمة مركزيّة ضمن الرؤية القرآنية للعالم، تلك الرؤية التي تجاوزت في دلالتها الدلالات العربية في الشعر الجاهلي إلى دلالة جديدة تنتظم الوجود الإنساني وعبوره من عالم الملك إلى عالم الملكوت، ومن عالم الشهادة إلى عالم الغيب، وهذا مما ينهض به القرآن على مستوى الرؤية للعالم دون سواه، وقد وردت الآية في القرآن بدلالاتها المتنوعة ومجاريها الثمانية مع دلالتها المركزية في الرؤية القرآنية التي تعني المعجزة، بما يعزز أن لفظ الآية أوسع من لفظ المعجزة وذلك بسبب ما يتيحه من التجلّي، كما يعزّز ما ذهب إليه شاكر من أن الاقتصار على لفظ المعجزة واشتقاق مفهوم الإعجاز منه وإن كان مستقرّا في الدرس الإعجازي إلا أنّه غيَّب مفهوم الآية وشاع على حسابه، فكان من حقّ هذا اللفظ على أهل العلم إعادته إلى السياق وتثميره في الدرس البلاغي والإعجازي معًا، لا بوصف الآية معجزة فحسب، وإنما بوصفها منزلة من المنازل التي يرتقي بها الناظر في القرآن إلى أن يصل إلى غاية مراده من وجوده، ويبلغ بها منزلته العليا في هذا الوجود، وهذه هي رحلة الإنسان من المسير إلى المصير.

——————-

كاتب وناقد أكاديمي

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. هذا كلام سام ومقام من العلم رفيع يأخذ بالقلوب ويأسر العقول ولا يزال علم البلاغة بحاجة إلى كشف مكنوناته وسبر أغواره وهومجال رفيع ومسلك ذو أهوال يحتاج إلى اطلاع واسع وجرأة على اختلاق المصطلح وتقنين المنهج وترسية القواعد وإبراز المحاسن وتسهيلها وإدراجها في مناهج الصغار حتى تكون صنوًا للقراءة والكتابة والحساب فيتعلم الصبي سر اللفظة وقيمتها وثقلها مع تعلمه حروفها وينتقي الكلمة كما ينتقي الطيب من الحلوى

    فالأرواح بحاجة ماسة إلى هذا السمو الشفافية والبيان لتصفو وتزكو وتعلو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى