منذ إنشاء هيئة مكافحة الفساد المعروفة اختصارًا بـ “نزاهة” تكشفت حقائق توارت عن الأنظار من عقود طويلة وهي ممارسة نهب المال العام واستباحة الفساد لمن هم مؤتمنون للحفاظ عليه.
ومما يحمد لـ “نزاهة” أنها لم تميز بين موظف بسيط وموظف من أصحاب المعالي. ومما هو مفروغ منه أن الهيئة تُعنى بالعمل على حماية المال العام ومكافحة الفساد وجمع البيانات وإعداد الإحصاءات في الأجهزة المشمولة باختصاصات الهيئة، كما تعمل على تنسيق جهود القطاعين العام والخاص في التخطيط والمراقبة، وهي، إذ تقوم بهذا العمل، تعمل بشكل شفاف معلن للملأ وبشكل مستمر على تحقيق هذا الهدف.
ومما يجعلنا نثق بإجراءات الهيئة هو أنها كجهاز أشارت وتناولت منسوبيها بالتدقيق ذاته. ولذلك، فإن التحقق من نزاهة منسوبي الجهاز نفسه، من وجهة نظري الخاصة، هو أعلى درجات النزاهة في أي مؤسسة.
ومن وجهة نظر دينية فإن مفهوم الفساد يتخذ طابعًا عامًا وشاملًا، هو خروج الشيء عن استقامته ووظيفته وقد وردت آيات في محكم التنزيل تندد بالفساد والأذى في الأرض وتبين عاقبة المفسدين. بل إن ديننا العظيم ودستورنا يذكر صراحة أن الفساد في الأرض من كبائر الذنوب وهو محرم باجماع العلماء لما يحدثه من أذى عام ولما يسببه من تردٍّ لأوضاع المسلمين، وفي هذا يقول الله تعالى: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ «، ويقول أيضا جل شأنه: « وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ». وسواء كان هذا الفساد مالياً، أم إدارياً يمس أي محور من محاور الحياة الاجتماعية، فإن كل ما يطلق عليه فساد داخل في هاتين الآيتين الكريمتين وسواهما من الآيات والنصوص الشرعية التي تحدثت عن خطورة الفساد. ولذلك، توعد الله سبحانه وتعالى المفسدين في الأرض بأشد العذاب.
وعلاوة على أن ممارسات الفساد تتنافى مع تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف فإن هذه الممارسة للفساد بلا أدنى شك تعطل التنمية الوطنية. ففي دراسات عالمية عديدة أظهرت أن للفساد أيضًا تأثيرًا مباشرًا في الأداء الاقتصادي للدول وذلك من خلال التأثير في العديد من العوامل التي تغذي النمو الاقتصادي مثل استقطاب الاستثمارات وبالذات العالمية منها ومستوى فعالية الإنفاق العام. إلى ذلك، يثبط الفساد الاستثمار، ويحد من النمو الاقتصادي، ويغير تكوين الإنفاق الحكومي، غالبًا على حساب المستقبل. وبالجملة، يصيب الفساد الحياة العامة بالشلل التام. ومما لا خلاف فيه أن تأثير الفساد المالي وضعف النزاهة لا يتوقف على التأثير في الأعمال التجارية القائمة والتي تؤدي إلى زيادة تكاليف الإنتاج وتقليل ربحية الاستثمارات بل ويؤثر بشكل مباشر في التنمية بوجه عام، ويكبد الاقتصاد الوطني خسائر كبيرة.
أرقام مذهلة ومبالغ كبيرة تلك التي تضيع في فساد الذمم. وتكاشفنا علنًا نزاهة من خلال رسائل نصية ومن خلال تقارير إعلامية بهذه الأرقام التي تشير إلى غياب الرقابة الذاتية وعدم الخوف من الرقيب وهو رب العالمين قبل البشر. ونحن نتحدث عن الفساد وممارسته لا يجب أن يغيب عن البال دور التربية الأسرية في فهم واستيعاب أهمية مكافحة الفساد وغرس هذا المفهوم لدى الناشئة منذ البداية. إن على الأسرة عاتق تعزيز الأمانة لدى الأبناء وغرس الخوف من الله أولا وأخيراً. ثم يأتي دور المدرسة في تعزيز الأمانة ويقظة الضمير واعتبارهما خلقين أساسيين لا يكتمل ايمان المرء إلا بهما. ثم يأتي دور اختيار الكفاءات الوطنية النزيهة لشغل المناصب الإدارية القيادية لمراعاة الله في حقوق الآخرين وحق المال العام لتكون الجوانب الأخلاقية أولاً وقبل كل شيء لتحقيق مبدأ شرعي مهم وهو العدل بين الناس وتنمية الدافعية من أجل نفع الآخرين، ذلك أن الفساد يهدد بناء المجتمعات ويقوض دعائم الدين والخلق النبيل.
ولأن التاسع من ديسمبر يوافق اليوم العالمي لمكافحة الفساد فإن الواجب علينا كمواطنين حريصين على المقدرات الوطنية ورفعة نماء الوطن أن نتعاون وتتضافر جهودنا من أجل الوقوف يداً بيد لمواجهة الفساد الذي تتعدد صوره وتتلون ممارساته وأشكاله لكنها بلا شك تضر بالاقتصاد الوطني وتعرقل التنمية الوطنية، كما علينا الإسهام في محاربة الفساد وغرس هذا المفهوم لدى أبنائنا. وقد خطت المملكة العربية السعودية في ظل حكومة سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان حفظه الله وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان ومنذ بداية توليهما زمام الحكم ملف الحرب على الفساد بلا هوادة وعلى كافة الأصعدة وهي خطوات جبارة ومشهودة على مستوى العالم لمكافحة الفساد. فمسوؤلية كل مواطن غيور على وطنه البدء بنفسه والنأي عن ارتكاب أي فعل قد يؤدي به إلى المساءلة أو أن يصبح ضمن خانة المفسدين في الأرض أولئك الذي يسعون في تخريب الأوطان غير مكترثين بشيء.