أستاذنا الدكتور محمد خضر عريف(طيّب الله ثراه) قامة من قامات هذا المجتمع ، فهو لغوي له حضوره في ساحة العلم والمعرفة اللغوية، وكاتب صحفي أسهم بقلمه في خدمة المجتمع والوطن والأمة، وأكاديمي حفر اسمه في ذاكرة البحث العلمـي والتعليم الجامعي، ومثقف له مكانته في ميدان الفكر والثقافة، وهو أيضا كاتب مسرحي، وشاعر عمودي.
طرق اسمه سمعي لأول مرة في بدايات التحاقي بفرع جامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة عام 1398ه، حيث كان يُدَرِّس لنا الأستاذ الدكتور محمد زكريا عناني(متَّعه الله بموفور الصحة والعافية) مادة (المدخل لدراسة الأدب) وأتذكر أنه كثيـرا ما كان يُثنـي على مجموعة من طلاب الدفعة التـي تخرجت قبلنا في قسم اللغة العربية التابع لكلية الشريعة والدراسات الإسلامية -آنذاك- المتميـزين في القسم، ومن بينهم الأستاذ محمد خضر عريف.
ثم شاء الله أن أتعرف عليه شخصيا منذ أكثـر من خمسة وثلاثين عاما، وذلك حينما التقيت به ذات يوم في مكتبه بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الملك عبدالعزيز، وكنت قد جئته لأفيد منه ومن خبرته في الابتعاث الخارجي، وخاصة أنه من أوائل المبعوثين للخارج في تخصص/ علم اللغة التطبيقي، وكم كانت سعادته وحفاوته بي، وتشجيعه لي لارتياد هذا المجال العلمي.
وتطورت علاقتـي به وتوثقت عُراها بعد حصولي على درجة الدكتوراه، وعملي بعدد من الإدارات والمراكز البحثية بمعهد البحوث العلمية وإحياء التـراث الإسلامي بجامعة أم القرى. وكان من الطبيعي أن يكون الدكتور محمد عريف حاضرا معنا في الأعمال البحثية التي تضطلع بها هذه الجهات، إما متقدمًا لنشر بعض بحوثه في المركز أو المجلة، أو مُحَكَّما للكتب والبحوث العلمية المقدَّمة لهاتين الجهتين البحثيتين. وأشهد في هذا المقام( وما شهدنا إلا بما علمنا) أنه كان من خيـرة من تعاملنا معه في مجال التحكيم، استجابةً سريعةً للدعوة ، وتحكيمًا علميًا دقيقًا للبحوث المرسَلة له، والتزامًا صارمًا بالمدة المحددة للتحكيم. ولم يكن يسأل عن المقابل المادي لهذه التكليفات بل إنه كان ينساه في ظل إيمانه بأداء الواجب.
هذا شيء، وشيء آخر أنه أكرمنـي بحسن ظنه وثقته فرشحني أكثـر من مرة للمشاركة في مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه لبعض طلابه وطالباته، وكان يقول لي بعد الموافقة على الترشيح وقبيل بدء جلسة المناقشة: لك مطلق الحرية في تقويم هذه الرسالة وتقييمها بما تراه صوابا، ولا ضير ولا تثريب عليك فيما تحسَب أنه في صالح الباحث والرسالة. بل إننـي أتذكر أنه حدث في مناقشة أحد طلابه في مرحلة الدكتوراه – وقد ارتأت لجنة المناقشة أن الرسالة بحاجة ماسة لإجراء تعديلات جوهرية- أن كلفنـي شخصيا بمتابعة هذه التعديلات مع الباحث، وأوحى له بأن مشرفك الآن هو مناقشك، وهمس في أذني بأن المسؤولية انتقلت منه إلي، وهذا – لعمري- خُلُق الجادّين المخلِصين من الأساتذة المشرفين، الطامحين إلى أن تكون رسائل طلابهم على مستوىً عالٍ من الجودة والاتقان.
ذلكم هو الأستاذ الدكتور محمد خضر عريف في الجانب العلمـي والأكاديميي. أما دراساته وبحوثه ومؤلفاته في الجانب اللغوي، فقد أوقفها على كثيـر من قضايا اللسانيات النظرية والتطبيقية، وشملت جلّ المستويات اللغوية، وجاءت على قدر كبيـر من العمق والشمولية، والإضافة المعرفية. وحيث إن تخصصه الدقيق كان في مجال اللسانيات التطبيقية فقد جاءت أغلب دراساته ضمن هذا الإطار المعرفي، ومما زاد من متانتها أنه كان يجيد اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وذلك ما جعله يُسَخِّر هذه المعرفة في خدمة قضايا اللغة العربية، كما أن ثقافته اللغوية كانت في أساسها تراثية، فجمع بهذا بين الأصالة والمعاصرة، وهذا ما هيّأ هذه الدراسات لتكون مصدرا مهما من مصادر تعليم العربية للناطقين بغيرها، فأفاد منها الباحثون والطلاب وأهل العلم أيَّما فائدة.
أما كتاباته في مجال النقد الأدبي والدراسات الأدبية، فقد جاءت متنوعة، وسارت في اتجاهات مختلفة، وإن كانت قد حظيت منه قضية الحداثة الأدبية بمعالجة متأنية ووقفة خاصة، وبخاصة أنه كان شاهدًا على تفاصيل تلك المرحلة وأحداثها التـي عاشتها الساحة الأدبية المحلية في مطلع القرن الخامس عشر الهجري، وكان له منها موقف مخالف.
وللدكتور محمد عريف ديوان شعري صدر مؤخرا، وهو ديوان(الشموع والدموع) الذي نشره عام 1442ه، محتويا على أربع وسبعين قصيدة عمودية، وجاءت نصوصه الشعرية في أغراض مختلفة وجوانب متنوعة ، فكان منها القصائد الوطنية، وقصائد في قضايا الأمة، وقصائد رثائية، وقصائد في جامعة الملك عبدالعزيز، وقصائد غزلية، ووجدانية، ورثائية، وقصائد في الأهل والأبناء، وقصائد في مناسبات اجتماعية. وقد تميـز خطابه الشعري بالوضوح وعدم الغموض، واللغة الانسيابية السهلة التي تلامس المشاعر، وتقترب من وجدان القارئ.
وأما مقالاته الصحفية، وأحاديثه الإذاعية، فكانت شاملة لقضايا الوطن والمجتمع والأمة، وما يخص حياة الناس ومعيشتهم، وتميـزت باتجاهها نحو ثقافة التعريف بحضارة الأمة الإسلامية، وبيان مكانة اللغة العربية، ومعالجة قضايا المسلمين في أرجاء المعمورة، كما اتجهت نحو التعريف بالأدباء السعوديين الرواد في مجالات الشعر والقصة والمسرحية وكافة فنون القول. وتجدر الإشارة إلى أنه كان يقدم برامج إذاعية باللغة الإنجليزية، ويكتب مقالات صحفية في الصحف السعودية المنشورة باللغة الإنجليزية.
وأما الجانب الإنساني في حياة أستاذنا الراحل فَحَدِّثْ عن ذلك ولا حرج، سواء مع أهل بيته، أو مع طلابه وطالباته، أو مع زملائه في العمل، أو مع من سواهم. وقد كان في هذا المضمار أنموذجا لصدق المشاعر، وعاطفة الأبوة والأستاذية، والزمالة الحقّة. ولم يكن ليتواني في قضاء حوائج من يقصده ويستعين به، والسعي الحثيث الدؤوب لتحقيق ذلك ما استطاع إليه سبيلا. وكانت علاقته بجميع من يعرفهم علاقة ود وحب وتقدير وحسن ظن، والوقوف منهم على مسافة واحدة.
وأما أسلوبه في الكتابة، نثرية كانت أم شعرية، فإنك ترى فيه جمالا وأناقة، ورقة وعذوبة، وقد استوقفني مؤخرا مقاله في رثاء ابنته هبة (يرحمها الله) التـي انتقلت إلى جوار ربها قبل خمسة أشهر، وكان عنوان رثائيته هو ( أميرتي النائمة) نشرها بصحيفة المدينة يوم الأربعاء 23 يونيو 2021م. والحق أن من يقرأ هذه المرثية – وهذا شعوري الخاص وربما شعور جلّ من قرأها- لا يملك نفسه من الحزن والألم والتأثر والتعاطف مع كاتبها.
وقد شاء الله أن أزوره بمنزله العامر بعد وفاتها بأسابيع معدودة، وكنت لم أره منذ وقوع وباء كرونا وانقطاع الناس بعضهم عن بعض، واستقبلني في حالة لم أعهدها فيه من قبل؛ فالفكر كان سارحا، والابتسامة كانت غائبة، وشعرتُ حينها أن الحزن على فقد ابنته قد بلغ مداه، وملأ تأثيره جوانحه. رحمهما الله رحمة واسعة، وجمعهما معًا في جنات ونَهَر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وفي نهاية اللقاء أسرّ إليّ أنه بحاجة إلى إجراء بعض الفحوصات الطبية، وبعدها بفتـرة قصيرة من الزمن علمت أنه اضطر للسفر إلى أمريكا لاستكمال العلاج. وبعد وصوله واستقراره هناك تواصلت معه عبـر الواتس، وكان يرد على رسائلي في بادئ الأمر، وكان مما ذكره لي في إحدى رسائله أنه مُنَوَّم في المستشفى، وأن حالته الصحية حرجة، وطلب منـي الدعوات الصالحات له في مكة المكرمة، وكان هذا آخر العهد بالتواصل معه.
ويبدو أن رحلته العلاجية لم تحقق ما كان يتمناه وأسرته، فقرر العودة لأرض الوطن ومواصلة العلاج هنا. وهاتفت ابنه الحبيب الدكتور أيمن الذي وقف بجانب والده وقفة الأبناء الـبررة، وأُبلي بلاءً حسنا، وحاولت معرفة إمكانية زيارته فأخبرني – وفقه الله، وجزاه خيـرا، وجعله ذخْرا وسنَدا لأسرته – أنه من الصعوبة زيارته حاليا لضعف مناعته.
وازدادت حالته الصحية صعوبة، ولكنه كان مع كل هذا صابرا محتسبا، متطلعا إلى لطف الله وكرمه، وسَعَة فضله سبحانه وتعالى.
وفي مساء الأحد 23 ربيع الآخر 1443ه، قضت مشيئة الله عزّ وجلّ – ولا رادّ لقضائه ومشيئته – أن يتوقف قلبه عن الخفقان، ويودع الآلام والأحزان، ويرحل عن دنيانا الفانية إلى جوار ربٍّ كريم رحيم، ليتـرك فراغا وأثرا في حياة محبيه، من الأسرة، والأقارب، والزملاء، والأصدقاء، والطلاب.
وهكذا طُويتْ صفحة مضيئة من صفحات أستاذنا، بعد عمر تجاوز الستة والستين عاما، كانت كلها عِلْمًا وعملًا، ونشاطًا وعطاءً، وإسهامًا وبناءً.
وقبل أن أختتم مرثيتـي في الصديق الراحل، أدعو في هذا المقام المسؤولين في أمانة محافظة جدة – مشكورين مأجورين – إلى إطلاق اسمه على أحد الميادين أو الشوارع الرئيسة بالمحافظة؛ تقديرا لمكانته، كما أدعو القائمين على جامعة الملك عبدالعزيز إلى تسمية إحدى القاعات الكبرى باسمه؛ تخليدا لذكراه، واعترافا بإسهاماته العلمية.
وأخيـرا، أقتـرح على أبنائه الأوفياء وأسرته الكريمة – ولعلهم فاعلون ذلك إن شاء الله- إلى جمع إرثه الصحفي والإذاعي، وبحوثه المنشورة في المجلات العلمية، في كتاب أو مجلد؛ ليسهل تداوله، ويعمّ نفعه، ويكون ذلك – إن شاء الله- من العلم الذي يُنتفع به.
رحم الله أبا أيمن، وغفر له، وتجاوز عنه، وتقبله عنده في عليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. والتعزية الصادقة لأهل بيته الكرام من الأبناء والبنات والأحفاد والأقرباء، ولجامعته وكليته وقسمه العلمي، ولكافة زملائه وأصدقائه وطلابه وطالباته وعارفي فضله، والحمد لله على أقدار الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
———————-
جامعة أم القرى