هيَ قوةٌ بكمالٍ واكتنازٌ بسعةٍ وعطاء بتميُّزٍ لا يمكن حدّها؛ وما استطاع الحاسدون غلبتها، فاكتفوا بأصحابها لإضعافهم فيها.
وُلِدنا وكبرنا على سماع شعارات وعبارات تبجيلها؛ لكونها:
* لغة الآباءِ والأجداد ونصوص التراث والتعليم.
* وأم اللغات المائزة بينها.
* لغة القرآن الكريم.
* ونرى إقامة الحفلات ويومًا عالميًّا لها مرةً كلَّ عام والإشادة بها بحشدٍ من مشاعر الامتداح والتعظيم والكلمات
والسؤال المهم :
– أهذا ما تريده منّا فقط ؟
– وما الأثر المستديم له علينا المتحدِّثينَ بها وتأثيرنا على المحيط وخارجه ؟
– وما الموقع الحالي الذي شيَّدناه لها في السِّيادة العالميَّة الحضاريَّة والعلميَّة والثقافيَّة والتعامليَّة وغيرها .. على المستوى الإجرائي التعليمي والمجتمعي والأسري والأفراد والإعلام والحضارات ؟
إنَّ الواقع العالمي لا يستطيع أحد فيه موارة قوتها وقدرتها ولكنه كاشف حقيقة أبنائها معها وضعفهم فيها إلا القليل منهم ممّن رحمَ ربُّنا، فما السببُ ؟
• أيكْمُنُ في تلك الاحتفالات المشيَّدة والشعارات والعبارات المردَّدة بأفواهنا حتى حفظناها وجمدنا عليها بلا فهم عميق ولا تقدُّمٍ معتقدين أننا بهذا بارِّينَ بها.
• ويَكْمُن السببُ أيضًا في طرق التنشئة عليها مُبدَلة العامية بها وتعليمها بأسلوب جافٍّ مُستصعَب، وكثيرٌ مِمَّن يُدَرِّسها أوْ يَدْرسها لا يتمثَّل بها في شخصهِ ومع محيطه ولا يتتبع كنوزها وجمالياتها ولا يكشف عنها.
ذلك كلُّه أفقدَ لدى الغالبية من أبنائها الحميميَّة الواجبة معها والاعتزاز بها والاستشعار الفعليّ لِمَهامها والتمكُّن منها والفهم الصحيح لتلك العبارات والكشف عن مكنوناتها مع تفعيلها في كلِّ زمانٍ ومكان .. في البيت والمدرسة والجامعة والمجتمع والمسجد والمؤسسات والإعلام.
ووصلنا الآن إلى حقيقة أنَّنا لا نريد ما يستهلك الوقت والجهد في تمجيدها فقط أو النقد لأوضاعنا والتشاؤم واليأس، بل متفائلين بالحل المتحتم المفضي للتعديل والعلاج وفاعلية الإنتاج بنجاح ونقل الحديث من النظري إلى العمل والمبادرات على أوسع نطاق .. والمعالِج للوضع؛ لتأخذ حقَّها لا محليًّا بل عالميًّا وليهنأ الجميع بها – إن شاء الله – ولنستشعر بنِعم اللهِ علينا؛ فكمْ يعاني غيرُ الناطقين بها كثيرًا لتعلّمها حرفًا حرفا وكلمة كلمة وجملة جملة ..
وعلى سبيل المثال للحلول والعلاج : التفعيل والتوضيح ولو باليسير لما تعنيه تلك المفاهيم والأقوال، نحو قول:
( هيَ لغة القرآن الكريم )؛
——————————
كثيرًا ما سألنا عما تعنيه هذه العبارة فنجد الجواب بترديد العبارة نفسها كما هي إلا القلة القليلة.
إنَّها اللغة العالميَّة التي نزل بها القرآن ليخاطب الناس كافة بقدرةٍ تتسع لتواصلهم وتستوعب حضاراتهم ونواحي حياتهم كلّها.
وعن طريقها يتدبَّرون ويفهمون كلامه ومراده تعالى، ومن ثم يأتي عملهم به صحيحًا دقيقاً ، كما في قوله عزَّ وجل:
* (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) الإسراء ٢٣
فالوقوف على دلالة وإعجاز الألفاظ والصِيغ المتخيَّرة عن غيرها والضبط بالشكل والسَّبك والسِّياق في الآية يفرُق كثيرًا، مثل: ( قضى)، (الباء ) دون “إلى”وتقديم الجار والمجرور ( بالوالدينِ )، (إحسانا) دون فعله “أحسنوا”، ( أفٍّ ) دون “أفْ”، ( كريماً ) دون “لطيفًا طيبًا جميلًا ..” ؛ فإنَّه بذلك سيتضح المراد لدى الابن ويفهمه متكاملًا ويمتثل به رضيّا على خلاف ترديده للآية من غير هذا الإدراك لمعطيات اللغة فيها والاكتفاء بالمراد العام فقط من الحث على ” برّ الوالدينِ ” حينها قد يتساوى عنده أأعمل به أم لم أعمل أو عدم الاكتراث بتمام المطلوب والإحسان الملازم وغيره ..
* مثال آخر من الشعر :
هَنيئًا لِهذا العيدِ أنَّكَ عيدُه
وأنَّكَ مِن فَيضِ البهاءِ تزيدُهُ
وإنِّي إذا أهداكَ غيري ورودَهُ
سأُهديكَ قلبًا أنتَ فيهِ وريدُهُ.
لو عَلِمَ السامعُ أو القاريء مَكْمَن تأثّره وإعجابه بهذا القول؛ لتشجَّع للمزيد من معرفة العربيَّة؛ ففي هذا الشعر سيجد أكثر المتسبِّب في إحداث جمال الأثر عليه هو : النعت ل (قلبًا)بالجملة الاسميَّة المستمرة الدائمة : (أنت فيه وريدُه) ولأدرك سرَّ دراسته النعت والجملة بل النحو كله .. وإن لم يكن متخصِّصًا؟! وسيخرج بحتميَّة فهم اللغة وعلومها ودراستها والاعتزاز بها.
* ولنتيقَّن نحن المربِّينَ أنَّ هذه اللغة هي التي تحمل الأثرَ على الفرد والحضارات وتحرِّك الهممَ والقِيَم والإنجازات والإبداعات حتى بحركة الضبط بالشكل والحرف والكلمة الواحدة فما بالنا بصيغٍ وعبارات وسياقات وخُطَب وأشعار فلنعمل عليها، مثال لذلك:
– رُوي عن الملك عبدالعزيز – يرحمه الله – أنَّه لاحظ في إحدى جولاته على قصر المربع وهو ما زال قيد التشييد والبناء أنَّه قد وُضع على مدخله بيتا الشعر:
لَسنا وَإِن أَحسابُنا كَرُمَتْ
مِمَّن عَلى الأَحسابِ يَتَّكِلُ
نَبني كَما كانَتْ أَوائِلُنا
تَبني وَنَفعَلُ مِثلَ ما فَعَلوا
لكن الملك طلب بفطنته وطموحه من عامل البناء أن يُعدِّل الشطر الثاني ليصبح:
ونفعل فوق ما فعلوا.
لقد غيّر – يرحمه الله – كلمة مثلما إلى فوق ما، طامِحًا للإضافة والمزيد ..
إنه الحسّ باللغة الصحيح المتطلع القائد المنجز والتأثّر السريع البنّاء بصيغها وبمعطياتها ..
كما قيل: ” الحرُّ تأسره مدادُ لحظةٍ ومعنى لفظةٍ “.
ولقد انطبعت مسيرة أبنائه الملوك من بعده بهذا المنهج؛ فصار كلٌّ يسعى إلى البناء فوق ما فعل سلفه، فتصاعدت التنمية في هذا الوطن.
ولنستفد مما يقام ببلادنا من إنجازات ومؤتمرات وفعاليات، وما أنشأه قاداتها لخدمة هذه اللغة كمركز الملك عبدالله ومعجم الملك سلمان وغيره، وما تبناه الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكَّة لمبادرات لها، منها ” كيف نكون قدوة بلغة القرآن “.
ومن عشر سنوات وأكثر هناك بلدان أجنبية تقوم بخدمة اللغة العربية والمشاركات لها.
مؤمنين بأنَّه إذا كانت اللغة العربيَّة تهِبُ الهويَّةَ وتنشرها عالميًّا فإنها قادرة على استيعاب التطور ومواكبة المعرفة الإنسانيَّة والإسهام في إنتاجها وتداولها .. فهي بيئة لها.
وما اختيار عنوان شعار اليوم العالمي هذا العام :
( اللغة العربيَّة والتواصل الحضاري ) إلا لكونها تناسب خطاب العقل البشري بجميع أنواع الخطابات والأساليب؛ وبخاصّة أنها كانت إحدى اللغات لمن أراد تعلم العلوم ووسيلة للانفتاح على العلم، والعالم بحاجة إلى نظام ينظم الصلات بين الألسنة.
والشاهد عليه رصيدها العلمي والثقافي والأدبي والفكري، وإثبات قدرتها على حمل أرقى المعارف الإنسانية حين قامت بترجمة العلوم السابقة، بل ومؤهلة لتتبوَّأ مركزها من جديد ومكانتها في مضمار تعريب العلوم والمعارف وتداولها أكثر من غيرها ..
هي تَقدُّمٌ لأصحابها ووطنٌ تواصليٌّ وحضاريٌّ ورمزيٌّ أكثر من كونها وطنًا بالمفهوم المكاني الجغرافي؛فلا بدَّ من التعريب المرجو للانتماء والتفكير والإحساس والتعبير والاتجاه ..
ولا نهدف لإحلال العربية محل الأجنبية إنما إعطاء الأجنبية ما تستحقه من قدر دون تغليبها على لغة الأم.
وليس الأمر ينحصر في حوسبة اللغة وغيره فقط، إنما العناية بالمنهج والمادة والأساليب والطريقة المستثمِرة لها حقًّا.