الهمم العملاقة، والأنفس التواقة، هي التي ترقى بالمجتمعات، وهي التي تنهض بالأمم، وهي الوحيدة التي تُشيَّد الحضارات، وكل ذلك لا يكون إلا بالعلم، ونيل العلم يحتاج لجلد ومثابرة، وجِد ومصابرة، وكل زمان له تحدياته، ولولا المشقة ساد الناس كلهم. والتحدي في عصر الرقمنة ليس في سهولة الحصول على المعلومة؛ بل يكمن في سهولتها، فهناك غزارة في المعرفة، ولكن السؤال هو: من الذي يستطيع توظيف هذه المعارف واستخلاص المفيد منها؟
على سبيل المثال فك شفرة جينوم الإنسان يعد من أعظم إنجازات العصر، والسعودية لديها مشروع الجينوم البشري الذي أنجز منه أكثر من ٥٠٪ ولكن التحدي القادم: كيف أستطيع التنقيب في هذه المعلومات الضخمة جدًا؟! وكيف أحصل على معلومة ذات أثر على حياتنا اليومية؟
وكذلك البحث العلمي تحيط به تحديات كبيرة جدًا، رغم الكم الهائل من التقنيات التي اكتشفتها البشرية؛ إلا أن هناك حاجة ملحة لمن يشغل هذه التقنيات ويوظفها في الاتجاه الصحيح. ولا شك أن البحث والاستكشاف في الجامعات المحلية قد قفز في السنوات الماضية قفزات متسارعة لا يمكن نكرانها مقارنة بعمر الجامعات.
حضرت مؤخرًا ملتقى الدراسات العليا الأول الذي أطلقه وكيل الجامعة للدراسات العليا والبحث العلمي، والذي استعرض فيه تاريخ الجامعة ومنجزاتها. عندما ترى الأرقام أمامك لا يسعك إلا أن تقف احترامًا لهذا الحراك الذي حصل في جامعة لم يتجاوز عمرها ٥٠ سنة. فالجامعة أستطيع أن أقسمها من وجهة نظري إلى أربع مراحل، الأولى ما سميتها بجيل المؤسسين، وهي أول دفعة أسسوا الجامعة ووضعوا بنيتها التحتية، وكان اهتمامهم هو التعليم وبالدرجة الأولى. جاء بعدهم الجيل الثاني وهو الرعيل الأول من مبتعثي الجامعة، فكان اهتمامهم هو الارتقاء بجودة التعليم، مع قليل اهتمام بالبحث. ثم جاءت المرحلة الثالثة وهي ثورة الدعم السخي للمراكز البحثية والمشاريع البحثية مع الاهتمام بالمخرجات كمًا ونوعًا. جاءت بعدها المرحلة الرابعة وهي مرحلة الارتقاء والريادة، ويمكن أن نسميها مرحلة الابتعاث للجامعات العريقة والنشر في الدوريات المرموقة، وتسجيل الاختراع تلو الاختراع. هنا برزت الجامعة التي تسيدت التصنيفات العالمية للمنطقة العربية، بل تربعت عليها لعدة سنوات حتى عامنا هذا.
مع هذا النجاح والدعم والفرص المتاحة الآن؛ إلا أن جيل المرحلة الرابعة مع الشباب ما زال متعطشًا ومتوقدًا، يريد الإنجاز، ويتطلع للمنافسة أكثر وأكثر، ويتوق لصناعة الأثر، وكأن رجلًا حكيمًا بين الحاضرين في هذا اللقاء من جيل المؤسسين فَهِمَ ما يشعر به الشباب فقام وارتجل كلمتَه العفوية الأبوية، فقال كلمات من القلب، وتكلم عن التحدي الحقيقي للحصول على المعلومة. فبدأ يتطرق للتجارب المضنية التي كان يعيشها، ثم يتوقف وينظر لأحد الحاضرين مبتسمًا: أتذكر كذا وكذا. مرة تكلم عن الحصول على المجلات العلمية ومعاناة الحصول على المعلومة. فإن كان الحصول عليها الآن لا يستغرق سوى نقرة في محرك قوقل، فقد كان الباحث سابقًا -كما يحكي- يذهب للمكتبة، ويفتش بين الرفوف، فإن لم يجد بغيته خط رسالته واتجه لساعي البريد، ثم وقف مع جموع الناس فيسأله الموظف: (سيرفس) أو مستعجل؟ ولك أن تتخيل أن (سيرفس) يعني الشحن بالسفينة. فتصل رسالتك بعد شهور عدة للمكتبة البريطانية، ثم يردون على طلبك إن كان متاحًا، ثم تصل إليك، فتعرف آخر ما وصل إليه العلماء في موضوع دراستك. نعم هذا الكلام لا يفهمه جيل الإيميل والزوم، والفيس بوك، وتوتير، وقوقل. ثم استرسل مبتسمًا؛ ليتحدث عن قصة أول حاسب آلي حصل عليه، هل تتخيلون أنه سيكون مثل حاسوب عزيز، أو ما يسمى السوبر كمبيوتر الذي يحوي ٤٩٦ خادم معالجة البيانات بإجمالي ١٢٠٠٠ وحدة معالجة؟ بل إنه حاسوب باهظ الثمن ذو شاشة سوداء لا يعرف سوى لغة الأكواد والرموز. واستطرد قائلًا: كان يطقطق طقطقة نستدل بها أنه يعمل على ما يرام، ويستغرق ذلك من الزمن ١٢ ساعة ليخبرك أن شفرتك صحيحة وتمت بسلام. فالتفت الحاضرون وتبسموا وضحكوا، ووصلت الرسالة بأننا نعيش في تقدم كبير وثمرة جهود مضنية قدمها جيل المؤسسين. ذلكم الرجل الحكيم هو قائد جامعة الملك عبدالعزيز صاحب المعالي والكعب العالي، الذي يلهمنا بدماثة أخلاقه، وتوقد عزمه وانطلاقه الكيميائي المخضرم والأكاديمي العتيق الأستاذ الدكتور عبدالرحمن اليوبي. ولأعود للحديث بما بدأت به حول التحديات الكبيرة في البحث والابتكار؛ فإن المرحلة القادمة لجامعة الملك عبدالعزيز هي مرحلة الاستثمار في هذه المعارف التي أخرجها علماء الجامعة، والغَرس الذي بذره المؤسسون، وضخ اقتصاد معرفي يجعل منها جامعة مستقلة بذاتها مثمرة على الوطن ومحركًا تنمويًا رائدًا نحو تحقيق رؤية الوطن الطموحة 2030. كل ذلك بإذن الله سيتحقق قريبًا، وستكون الجامعة منارة للهدى واسعة الأفق والمدى، كما انطلقت من أرضها أعظم رسالة عرفتها البشرية ابتدأت بإقرأ.
0