د. خالد محمد باطرفي

الحرب على القطاع الخاص (3-3)

في برنامج ياهلا على روتانا خليجية، كان السؤال عن مبرر عنوان هذه السلسلة المقالية ”الحرب على القطاع الخاص”. (https://youtu.be/kJNnL_bAXtA )

وطرح مقدم البرنامج، “المتميز” جمال المعيقل، عددًا من الأسئلة الذكية والاحترافية حول طروحات المقال، بعد أن استوعب الرأي والرأي الآخر في هذه القضية. وشارك في الحوار المستشار القانوني سلطان العنزي، والمستثمر، الخبير في مجال المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، رائد أبو معطي.

تقييم الاجتهادات
وقبل أن ألخص إجاباتي مع ما أردت إضافته ولم يسمح الوقت المحدد، أود أن أؤكد قناعتي بأن كل ما يجري اليوم على الساحة الاقتصادية هو نتاج لانتفاضة طال انتظارها على الجمود الذي امتد عقودًا، وتصحيحًا لمسارات خاطئة. وتجديدًا لروح ونشاط القطاع الخاص، مستمدًا من أهداف رؤية السعودية 2030 وتطلعاتها المستقبلية. ومستفيدًا من أحدث نظم المعلومات الرقمية والتجارب الدولية المتقدمة.

والنقاش الدائر ليس حول ما إذا كان هذا التوجه صحيحًا، فكلنا معه ونعمل على تحقيقه وندعو لنجاحه، ولكن حول اجتهادات الدوائر الرسمية والخاصة في كيفية أسلوب وسرعة مراحل التنفيذ. وهدفنا من ذلك إبداء الرأي وتبادل الأفكار بناء على تجارب التطبيق، وآثارها الإيجابية والسلبية، المقصودة والعرضية، على صحة الاقتصاد الوطني، ومواكبة للاستراتيجيات والأهداف المنشودة. والأمل أن يتقبل أصحاب القرار منا هذه المشاركة والتوصيات والتساؤلات بروح التعاون التي أوصى بها الملك وولي عهده -حفظهما الله- كل مسئول.

غياب الغرف التجارية
ولعلي أبدأ هنا بمحور دور الغرف التجارية الصناعية في الدفاع عن مصالح أعضائها من التجار والصناعيين. فالغرفة هي رابطة تمثل التجار والصناعيين، ومهمتها أن تربط بينهم وبين الجهات الحكومية والممثليات الأجنبية والمنظمات الدولية، للمشاركة في وضع الأنظمة، وتوضيحها لهم، والدفاع عن مصالحهم المحلية والدولية، وتوفير المعلومات والاستشارات والخدمات التي تسهل نشاط المشتركين.

ومن حقنا هنا أن نتساءل عن دور الغرف ومجالسها الوطنية، أو غياب هذا الدور في كل ما سبق. فهل مهمة مجالس الإدارات المنتخبة والممثلة لقطاع الأعمال العمل ليل نهار على خدمة القطاع، كما وعدوا ناخبيهم. أم التفرغ لبناء شبكات العلاقات العامة والخاصة لخدمة أعمالهم وحضور المناسبات المحلية والدولية، والبروز الإعلامي؟

أرجو أن أكون مخطئًا، ولكنني كغيري من المتابعين لا أسمع طحنًا ولا أرى دقيقًا. رغم تزايد الحاجة لهم أكثر من أي وقت مضى. فالاقتصاد الوطني يمر بحالة مخاض، وتنمية كبرى، وتطورات متسارعة وهائلة. فأين هي الغرف التجارية من كل هذه الساحات والمسئوليات؟

هدم العشوائيات
مثال على هذا الغياب الهدميات التي طالت الكثير من أحياء جدة في وقت واحد؛ للقضاء على العشوائيات بما تمثله من مشاكل وتحديات امنية وتنظيمية وخدماتية، وهو هدف عظيم نتفق عليه ونتعجل تحقيقه. لكن السؤال، هل تم التنسيق مع غرفة جدة لمعرفة تداعيات ومتطلبات المهلة المحدودة بشهرين منذ تسليم الإنذار وحتى الهدم لأصحاب العقارات والأسواق والمحلات والمستودعات؟ وهل وضعت الحلول للمشاكل المترتبة عن التفريغ السكاني والتجاري لهذه المناطق، بحيث يتم استيعاب السكان وأصحاب الأعمال في مناطق أخرى حسب قدراتهم المادية وثقافتهم الاجتماعية؟ وهل وضع في الحسبان التعجيل بدفع قيمة الممتلكات وتعويض أصحاب المتاجر، حتى يتمكن أصحابها من الانتقال بلا عنت؟ وهل لشركة جدة القابضة للتطوير وجدة للتنمية والتطوير العمراني التابعة لأمانة جدة، وفي ودائعها مليارات من المساهمات مجمدة منذ تأسيسها قبل عشر سنوات، دور في مشاريع تنمية المناطق المزالة؟

التوصية: أهمية الالتزام بأهداف ومهام الغرف التجارية في خدمة أعضائها، أو عدم إلزامهم بالاشتراك فيها، وتضييع وقتهم في انتخاباتها، طالما تحولت إلى نوادٍ خاصة لكبار رجال وسيدات الأعمال، هم الأولى بتحمل مصاريفها.

محاربة التستر أم التوطين
ولعل أبرز المحاور كان هناك تساؤل حول جدوى الأنظمة الجديدة في محاربة التستر، وموقفي أن التستر التجاري جريمة يعاقب عليها القانون، ومكافحة التستر مسئولية الجميع. المشكلة أن القوانين تستهدف المواطن الذي حل مكان الأجنبي، وليس العكس. ضع نفسك في مكان متقاعد اشترى بقالة أو مطعمًا أو محل خضار وفواكه ودخل سوقًا ينافس فيه الأجانب بخبرتهم الطويلة، أو يحل مكانهم. وبدلًا من أن ندعمه في هذه المواجهة تنهال عليه الأنظمة والغرامات والرسوم فيضطر للخروج بخسارة وترك المجال الذي نسعى لتوطينه، أو اللجوء إلى التستر على من يجيد التعامل مع هذه التحديات.
الذي وجه بسن هذه الأنظمة كان ينشد العدالة والتنظيم الذي يخدم جميع الأطراف، ولكن المشكلة أن الذي قام بسنها واستعان بمؤسسات خاصة تقوم على تنفيذها إما بالغ في التشديد والتفصيل؛ بحيث لا يكون هناك مجال لاستيعاب الحالات المختلفة وغير المشمولة، أو ترك التقدير مفتوحًا وغائمًا للمراقب ليتصرف باجتهاده ومزاجه الشخصي. ويطبق العقوبات بدون توضيح رسمي ومكتوب لمبرراتها النظامية. أو يعاقب بأثر رجعي أو على قانون صادر للتو. وأن لا يلتزم بالتدرج الذي نص عليه نظام مجلس الوزراء فيما يخص مراقبة تطبيق الأنظمة، وينص على أن يقدم المراقب نفسه ويعرف بمهمته أولًا، ثم يبدأ بالشرح والتوضيح والتوجيه، بلطف ولباقة واقناع لكسب ثقة المستفيد.
ثم إذا تكررت المخالفة يوجه إنذارًا شفويًا، وفي المرة الثالثة كتابيًا، قبل أن تصدر عقوبة لا تتجاوز حدًا نص عليه القانون على المبدأ الشرعي، لا ضرر ولا ضرار. كل هذه الخطوات المرحلية والشروط المقيدة تجاوزها وتنكر لها تعميم وزير الموارد البشرية، رغم أن قرار مجلس الوزراء مرجعية لا يسمح لأي وزير بتجاوزها تحت طائلة المحاسبة.

ضبابية الأنظمة
ومثال لضبابية وتخبط الأنظمة، نظام المستودعات الذي لا يفرق بين مستودع مواد غذائية أو خردوات مثلًا، ومستودع معدات ثمينة أو مواد قابلة للاحتراق. وهكذا يطلب من صاحب مستودع رز مساحته ٣٠٠٠ متر ببوابة واحدة، توظيف تسعة حراس أمن من شركات محددة برواتب ٥٥٠٠ ريال، لثلاث نوبات. وتركيب ١٨ كاميرا أمنية، مع عقد صيانة سنوية لها، ومعدات إطفاء وإنذار من الحريق، مع واحدة من شركات معينة. يضاف لذلك رسوم لأكثر من جهة، وعقوبات كبيرة لأي مخالفة، حتى ولو كانت انتهاء مدة أنبوبة الإطفاء في نفس اليوم، أو عدم تطبيق نظام مواصفات جديد لأي من الأنظمة الأمنية.

بالنتيجة، سيخرج المستثمر الصغير خاسرًا رأسماله ومطالبًا بأضعافه ويبحث عن وظيفة لعله يغطي مصاريفه اليومية. أما عن الرسوم والغرامات والإيجارات غير المسددة، فمصيرها المحاكم والديون البنكية المعدومة. وسيلجأ المستثمر الكبير إلى تصفية أعماله والرحيل بما سلم من رأسماله إلى الخارج، للاستثمار في بيئة أكثر تسامحًا ودعمًا وأمنًا، ويخسر الاقتصاد الوطني السيولة والخدمات والوظائف التي كانت توفرها هذه الأنشطة. كما ستخسر جهات التحصيل نفسها لأنها قلصت الموارد متجاهلة مبدأ (قليل دائم خير من كثير منقطع).

التوصية: تصحيح الأنظمة وتوحيد مرجعيتها ومساراتها، ومحاسبة المتجاوزين وتعويض المتضررين من الأحكام المخالفة لقرارات مجلس لوزراء. والسماح بالاعتراض لمدة كافية (٣ شهور مثلًا بدون تسليم شيك مصدق). ومواءمة الإجراء والعقوبة مع مقدار الخطأ وحجم المنشأة وعمرها وملاءتها المالية. كما لابد من إلغاء الحوافز المادية للمراقبين، والاستغناء عن المؤسسات الخاصة في التحصيل، والاكتفاء بمراقبين حكوميين مدربين وملتزمين بقرارات مجلس الوزراء المنظمة لعملهم، هدفًا وتطبيقًا، مع الاشراف الدقيق على أدائهم.

كما اقترح قيام ”نزاهة“ بمراجعة كيفية اختيار وتعميد الشركات والمؤسسات الخاصة المكلفة بتوفير خدمات معينة كالصيانة ومبيعات الأجهزة والحراسات. مع اشتراط شفافية معايير الاختيار وتوسيع دائرته لزيادة التنافس وتحسين الخدمات وتخفيض الاسعار.

تعدد المنصات الحكومية
كما طرح البرنامج سؤالًا عن جدوى تعدد المنصات الحكوميه، وبتصوري أن الهدف هو تقديم خدمات متخصصة معلوماتية وإجرائية وتفاعلية. لكن عدم التنسيق، وغياب المرجعية الثابتة والمعايير الموحدة، قاد إلى اجتهادات مستقلة ومتضاربة، وخرج عن قاعدة التخصص وتقسيم العمل لرفع مستوى الكفاءة.

وربما نتيجة لمشاركة مؤسسات خاصة في وضع هذه الأنظمة وتطبيقها وجباية رسومها، نجم عن ذلك تضارب مصالح، وأصبح الهدف الأول هو تحقيق المزيد من الهيمنة وتحصيل المزيد من الرسوم. بدلًا من أن ينصب الجهد على تبيان الأنظمة الجديدة وشرحها والإجابة على أسئلة المستفيدين. وعلى كيفية حل المخالفات والتوجيه باتباع الإجراء الأسلم بأقل جهد وتكلفة.

وبالنسبة للمنصة العدلية فهي أفضل بكثير، وخاصة مع تأسيس المحاكم المتخصصة، كالإدارية والتجارية والعمل والعمال. ولكن المشكلة تكمن في طول إجراءات التقاضي وتعذر التنفيذ. فبعد إلغاء وقف الخدمات والتوقيف، لم يعد هناك أداة فعالة وملزمة لفرض الأحكام.

التوصية: مطلوب إصلاح مؤسسي وإجرائي، حتى لا يتحول الفساد الفردي إلى فساد مؤسسي، وأن تكتب جميع الأنظمة ويتاح الاطلاع عليها، وتكون مرجعًا حاسمًا لأي خلاف يشوب التطبيق.

توجيه وتدريب المستثمرين
المحور التالي كان عن حاجة المستثمر، خاصة الصغير والمبتدئ، للتوجيه تلافيًا للمخالفات. إذ لا يوجد في سوق العمل الحر، سواء شركة كبرى، أو مؤسسة فردية، وطنية أم دولية، من لا يتعطش لمزيد من الشرح والتوضيح. وللأسف فإن كثيرًا ممن يجيبون على التساؤلات ليسوا مدربين بما يكفي ليقدموا شرحًا واضحًا وشافيًا، أو حتى صحيحًا.

كما أن ورش العمل والشراكات التعليمية والتدريبية التي خصصتها بعض الجهات لتوجيه رواد الأعمال، خاصة من المستجدين، اكتفى بعضها برفع التقارير عن تنفيذها ولم تتأكد من مدى الاستفادة بالمتابعة المستمرة. خاصة وأن الأنظمة تتغير بشكل مستمر، والاعتماد على معلومة قدمت مرة واحدة في ندوة أو ورشة عمل يؤدي إلى تورط في مخالفة الأنظمة المستجدة.

الأجدى أن تستكمل جميع الأنظمة ضمن باقة واحدة، على منصة واحدة، ومركز موحد. ويوفر لها مستشارين متخصصين في كل مجال يردون على اتصالات ورسائل ومراجعات الجمهور. وأن تنظم دورات إلزامية لكل من يرغب في الدخول إلى عالم الأعمال. تشمل كل الأبعاد العامة والخاصة، مثل الحصول على التمويل من البنوك، وعمل دراسات جدوى اقتصادية، أو تكليف جهة بتوفيرها بالتعاون مع الاحصاءات العامة. وإلا انتهى الأمر إلى فتح آلاف المقاهي والمطاعم تغلق نصفها في نهاية العام الأول.

التوصية: مطلوب تشكيل مرجعية موحدة. وخط سير واحد. وأنظمة سهلة، متسقة، ميسرة، منشورة، وشديدة الوضوح. وتوزيع القروض الحكومية للأعمال الصغيرة والإعفاء الضريبي لمدة ٥ سنوات، وهو دعم معمول به في العديد من دول العالم. كما نوصي بتعاون مشتريات الدولة مع المؤسسات الصغيرة بالشراء والتعاقد المباشر معها. كما أن الحاجة ماسة لتفعيل دور الجهات التي تمثل القطاع الخاص، وتدافع عن مصالحه وتقدم الدعم الاستشاري والتوجيهي والقانوني له، مثل الغرف التجارية ومركز التنافسية وهيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة.
تنظيم لا جباية
أخيرًا، نذكر كل وزير ومسئول ومستشار بتوجيه ولاة الأمر -حفظهم الله- بأن يسخروا انفسهم لخدمة الوطن والمواطن. وأن تطبيق الأنظمة يجب أن يراعي قدرة الناس على تنفيذها فإذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع. وأن الهدف من الأنظمة والرسوم والعقوبات لا يتجاوز تحقيق العدالة والرخاء وأهداف التنمية، والهدف من المنصات رفع مستوى الخدمات وتيسيرها، وليس تضخم الأنظمة، وزيادة التعقيدات وتحصيل الغرامات.

ولنتذكر جميعًا أننا جميعًا شركاء في بناء هذا الوطن، وأن التاجر والصناعي والبناء ومقدم الخدمة ورائد الأعمال ليسوا خصومًا ولا منافسين ولا فرائس، بل عماد بناء ومادة رخاء وصناع حياة.

@kbatarfi

د. خالد محمد باطرفي

دكتوراه في الصحافة والعلوم السياسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى