المقالات

الشعر مدخلا كونيًّا!

لا يبدو الشعر مدخلا أو طريقا إلى معرفة الإعجاز فحسب، بل هو مدخل أيضا لفهم العالم، ولئن كان المقصود في سياق إعجاز القرآن الشعر العربي، وبالتحديد الشعر الجاهلي، إلا أنّه من الجدير أن يضاف إلى ذلك أن الشعر بكل تجلياته ومستوياته وأنواعه سواء بالمفهوم العربي أو المفهوم اليوناني، مدخل إلى الحضارة الحية، وإلى التفاعل مع الكون، والأهمّ مدخلٌ إلى الروح الإنسانية، وأية حضارة لا تحفل بهذا فمصيرها التفكك، ثم الموت، وهذا ما أدركه الفيلسوف الفرنسي بيار تويي، حين نعى الحضارة الغربية مبكّرا، في كتابه الأخير (الانفجار الأكبر) الذي صدر قبل وفاته بعامين، تحديدا في عام ١٩٩٥م، “ومدار هذا الكتاب على ما حاق بالحضارة الغربية من سقوط مدوّ تخيّل وقوعه بين سنتي ١٩٩٩و ٢٠٠٢م”، وقد ترجم الكتاب أ.د. محمد بن الطيب، ود. عادل النجلاوي، وهو كتاب مهم في عصرنا الراهن وفي سياقنا الجديد، أحسنتْ دار أدب بتبنّي الكتاب وإصداره ضمن مشروع الترجمة الذي أنتجت من خلاله عددا من الإصدارات المهمة، في النقد والفكر والتاريخ والفلسفة.
يتساءل تويي، في هذا الكتاب، عن أثر غياب الشعر، ومن ذلك غياب الأسطورة باعتبارها تمثّلا جماعيّا، على الحضارات الإنسانية، كما يطرح أهمية وضرورة وجود تمثّل جماعي لفكرةٍ ما، تضفي على المجتمع معناه وتمنحه تماسكا وروحا، وهذا عين ما أكّده المفكر مالك بن نبي في ميلاد مجتمع، وفي شروط النهضة، غير أنّ المهم هنا هو تمثّل الروح الشعرية، تلك التي تتجاوز بالمجتمع أبعاده المادية إلى أبعاد وجدانية وروحية، ومن هنا يمكن لي القول إن الشعر مثلما هو مدخل لبيان إعجاز القرآن، فهو أيضا مدخل للمجتمع الذي فقد روح السماء لإعادة الروح الإنسانية إليه، ومن ثم الدخول إلى عالم الملكوت الربّاني وفهم معنى ومغزى هذا الكون، وأنّه ليس مختبرا تجريبيّا للعلم الحديث، بل هو مدرج وأفق للتأمل وإدراك علاقة الإنسان بالكون وروحه المفارقة لهذا العالم.
يتساءل تويي:”هل ظلّت الحاجة إلى الشعر أمرا حيويًّا في المجتمع الصناعي؟ هل كان الناس يفهمون أنّ مصيرهم الذبول وأنّ بعضهم سيعتزل بعضا وأنّهم سيفقدون- في غياب الشعر- كلّ معنى للحياة الكونية؟”.
لاشك أن العلوم الإنسانية أهم في هذا الباب من العلوم الطبيعية وإن كانت تلتقي كلها في بناء العالم وإعماره بما يحقق مراد الله منه، غير أن رتبة العلوم التي تتعلق بالبعد الإنساني كالدين واللغة والشعر والفن عموما، مقدمة على رتبة العلوم الطبيعية حين تنزع من سياقها الكوني وتتحوّل إلى سياق صناعي صرف ليس فيه سوى المصنع والآلة.
من هنا يأتي الشعر بوصفه مدخلا كونيا يتم من خلاله إعادة الإنسان إلى موقعه من العالم وموقفه منه؛ فالعالم من المنظور الشعري ليس سوى معبر إلى عالم ممكن مكتمل، وهو ما يعني أنّ الإنسان ليس جزءا من الطبيعة، أو جزءا عضويا من العالم، بل جزء مفارق من عالم آخر أوسع مدى وأبعد غاية، وهذا ما يعززه الدين الذي يلتقي مع الشعر، والفن بالعموم، في اعتبار العالم الطبيعي مادة للعبور لا للمكث الدائم، وفي هذا السياق يمكن اعتبار العقل أداة من ضمن أدوات أخرى لفهم العالم وتأويله، إذ تأتي الذاكرة والمخيلة ضمن الأدوات التي قد تسمو على العقل التجريدي في التفاعل مع العالم من منظور مفارق ومتجاوز للمادة المصمتة التي تحبس العقل في إطار السببية والهوية وعدم التناقض، في حين تتجاوز الذاكرة هذا الإطار إلى الأزل، كما تتجاوزه المخيلة إلى الأبد، ما يعني أن الإنسان المكتمل هو الإنسان ذو الأبعاد الثلاثة من جهة هذه الملكات الفاعلة في الوجود، وهذا الأمر لا يكون إلا من طريق الشعر والفن والدين، غير أن الدين بمفهومه الحقيقي يتجاوز الشعر والفن إلى مستوى أبعد من الذاكرة والخيال، هما مستوى الأزل والأبد، فيما وراء العالم الطبيعي المحسوس إلى عالم غيبي أكثر ثراء وأكمل حقيقة وأوسع إدراكا.
وحين تتم عقلنة العالم فذلك يعني قصره على مستوى واحد من الإدراك، هو المستوى المنطقي الصرف، والوصول إلى “الجمود الميكانيكي”، بتعبير ماكس فيبر، “والانحصار في قفص من فولاذ”.
ومن المفارقات أن الذين أصيبوا بهوس العقلانية الجديدة يحاولون إغفال حقيقة أنّ التفكير العلمي لا يستغني عن الإبداع بمفهومه المتجاوز والمفارق، لأنّهم، كما يقرر بيار تويي في معرض نقده لهم،”لا يرغبون في الاعتراف بأنّه يوجد لامحالة في كل فكر عقلاني بُعدٌ رمزيّ يبقى بعيدا عن الإدراك”.
والحق، كما يقرر باسكال، هو أنّ “آخر خطوة للعقل هي أن يعترف بأنّ هناك عددا لا متناهيا من الأشياء التي تتجاوزه”، غير أن المغتبطين بالعقلانية يتجاهلون هذه الحقيقة ويتعالون عليها في سبيل تحويل العالم إلى مصنع والإنسان إلى آلة؛ وذلك عندما عمّموا استعمال الآلات (التوزيع الآلي والمراقبة الآلية وغيرها).
ومن الغريب أنّه حتى الفنّ لم يسلم من هذه العقلنة الصارمة والآلية التي نزعت منه روح الإنسان الحي وأحالته إلى متاحف ومقابر وضرائح جماعية، فكان هذا “التمزّق الهائل” الذي وصفه جورج دوتوي بقوله:” إنّنا ننتزع الإنتاجات الفنية من الحياة كما يُنتزع الظُّفر من اللحم. كانت المنتجات في القديم جزءا لا يتجزّأ من كلٍّ حيٍّ، فلم تعد الآن سوى قطع محكوم عليها بالجمود. لقد أضحت غريبة مبتورة بعد أن اجتُثّت من جذورها”.
ولاريب أن كل ذلك تم تحت سطوة الهوس بالعقلانية واعتبار كل شعور أو تجاوز ماورائي من التخلف والرجعية، حتى وصل الأمر إلى طريقة في التلقّي هي إلى السطحية أقرب منها إلى العمق، وإلى البلادة أقرب منها إلى الشعور الحي الذي يجمع بين العقل والروح، وكان ذلك بسبب إقصاء الشعر باعتباره مدخلا إلى فهم وتأويل العالم، وإحلال العقل الآلي بدلا عنه حيث يهيمن الجمود الميكانيكي الرتيب على الروح الشعرية المفارقة والرمز ذي الثراء الدلاليّ المتجاوز.
من هنا يمكن القول إنّ الدُّربة على قراءة الشعر من هذا المنظور دربة على تأمّل الكون وفهم أسراره، وتنمية الملكة الجمالية في تلقّي الشعر هي من وجه آخر تنمية لملكة التدبّر والتأمّل في بناء الكون البديع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى