المحلية

الشيخ بن حميد في رثاء اللحيدان.. إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بموت العلماء

رثاء معالي الشيخ صالح بن حميد عضو هيئة كبار العلماء، المستشار بالديوان الملكي، فضيلة الشيخ صالح اللحيدان، رئيس المجلس الأعلى للقضاء قائلًا:

الحمد لله كتب على أهل هذه الدار الفناء، أحمده سبحانه فهو المتفرد بالبقاء، وأشكره في السراء والضراء، لا إله إلا هو جعل الموت راحة للأتقياء، وسوء مصير للأشقياء، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم الأنبياء وإمام الحنفاء، وعلى آله السادة الأصفياء، وأصحابه النجباء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم اللقاء.

أما بعد: فللعلماء في هذا الدين مكانة عظيمة لا تنكر، وفضل كبير لا يكاد يحصر، هم الأمناء على وحي الله، وهم أهل خشيته، وهم النور في الظلمات، والمنار في المدلهمات.
ومن المتقرر لدى أهل العلم أن العلم يذهب بذهاب العلماء مصداقا للحديث.. «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، فإذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالا فسألوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا»، وقد قال أهل العلم في قوله جل وعلا: {أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها}، إن ذلك هو موت العلماء، كما هو منقول عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وعن غيره، وقد قال الحافظ بن عبدالبر: إن العلماء تلقوا هذا التفسير بالقبول.
وقيل: لسعيد بن جبير ما علامة هلاك الناس؟ قال: إذا هلك علماؤهم.
وقال سفيان بن عيينه: وأي عقوبة أشد على أهل الجهل أن يذهب أهل العلم.
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها
متى يمت عالم منها يمت طرف
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها
وإن أبى عاد في أكنافها التلف
العلماء هم صمام الأمان ورابطة الاجتماع، يبقى العلم ببقائهم، ويذهب الحق بذهابهم.
وحينئذٍ يتصدر الجهلاء، ومن ثم فلا تسأل عن الفتنة والبلاء.
وفي الحديث عن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «خذ العلم قبل أن يذهب، قالوا: وكيف يذهب العلم يا نبي الله وفينا كتاب الله؟ قال: فغضب ثم قال: ثكلتكم أمهاتكم أولم تكن التوراة والإنجيل في بني إسرائيل فلم يغنيا عنهم شيئاً، إن ذهاب العلم أن يذهب حملته». رواه بن ماجه بسند صحيح.
وفي الحديث الآخر كما في البخاري: «يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حثالة كحثالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله باله».
يقول سعيد بن المسيب -رحمه الله-: «شهدت جنازة زيد بن ثابت -رضي الله عنه- فلما دُلّي في قبره قال ابن عباس رضي الله عنهما: من سره أن يعلم كيف ذهاب العلم فهكذا ذهاب العلم، والله لقد دفن اليوم علم كثير».
يحفظ الله دينه بالعلماء العاملين المخلصين، أعلام هدى هم النور الذي يهتدى به في الطريق.

 

الشيخ صالح اللحيدان رحمه الله

ومن أجل هذا جاء الثناء العظيم عليهم في كتاب الله وفي سنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول عز شأنه: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}، ويقول جل وعلا: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً، ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) رواه أبو داوود والترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
يقال ذلك كله وقد فقدت البلاد، وأهل العلم قامة علمية شامخة، كانت ملء السمع والبصر، في علمها وفضلها وصلاحها وحضورها وقوتها، إنه سماحة الشيخ، العلامة، الفقيه، الداعي إلى الله، الشيخ الإمام، صالح بن محمد اللحيدان حيث وافته المنية ليلة الأربعاء الماضي 2-6-1443هـ، بعد معاناة من المرض غفر الله له، ورحمه، وأسكنه فسيح جناته، وجعل ما أصابه تكفيراً لسيئاته ورفعاً لدرجاته، وعوض المسلمين وأهل العلم والبلاد خيراً.
أظلمت بعده الديار وقد
كان سراجاً بها وبدراً منيراً
* * * *
إلى الله أشكو لا إلى الناس فقده
ولوعة حزن أوجع القلب داخله
لم يكن -رحمه الله- مجرد مسؤول أو رئيس، بل كان ذا رأي وعزم، وكمال عقل مع أفق واسع، ودراية مستوفية، مع ما وهبه الله من هيبة، ونفاذ بصيرة، وقوة في الحق، وثبات لا يتزعزع.
وأحيط القضاء في عهد سماحته بسياج من الحفظ والهيبة قل نظيره، وكان يحمي القضاة، ويحفظ جانب القضاء، من كل من يحاول أن يتطاول عليه، أو ينال من أهله من جهات أو شخصيات.
إذا هَمَّ لم تردع عزيمة همه
ولم يأت ما يأتي من الأمر هائباً
وكانت له مواقف محمودة، وعزمات مشهودة، حفظ الله به هذا الكيان العظيم، فهو شيخ القضاة وحامي القضاء، صاحب العلم المقصود، والمجلس المشهود.
يدير مجلس القضاء ببصيرة نافذة، وجلد كبير، لا يقوى عليه إلا نوادر الرجال.
كما أنه – رحمه الله – لا تأخذه في الحق لومة لائم، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا يتأخر في شفاعة، ولا يتوانى عن مساعدة، ذو خبرة واسعة في الدين والدنيا.
ترى في شخصيته النزاهة حين يجملها العلم، وتبصر فيه الإدارة حين يكسوها العقل والخبرة.
إنه أحد الشيوخ الكبار: الكبار في العلم، والخلق، وفي الشخصية القوية النفاذة.
عالم جليل من كبار علماء المسلمين، ومن رموز التدريس والفتيا والدعوة إلى الله، تعلوه المهابة، ويكسوه الجلال.
عرف -رحمه الله- بصلابته بالحق، سطر التاريخ ذكره وهو لا يزال يمشي على الأرض، بعيد النظر، عالي الهمة، قوي الشخصية، صادق اللهجة.
لازم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- منذ أن تخرج من كلية الشريعة عام 1379هـ، حتى وفاة الشيخ عام 1389هـ، سكرتيرا له في الإفتاء، ثم كان مساعداً لرئيس المحكمة الكبرى في الرياض، ثم رئيساً لها حتى عام 1390هـ، حيث صار قاضي تمييز ثم عضواً في الهيئة القضائية العليا.
في عام 1403هـ عين رئيساً للهيئة الدائمة في مجلس القضاء الأعلى، ونائباً للرئيس حتى عام 1413هـ، ليكون رئيساً للمجلس بهيئته العامة الدائمة حتى عام 1430هـ.
عضو هيئة كبار العلماء منذ إنشائها عام 1391هـ، وعضو في رابطة العالم الإسلامي.
له نشاط علمي مبارك مشهود في إلقاء الدروس وبخاصة في المسجد الحرام، وفتاوى في برنامج نور على الدرب.
والشيخ -رحمه الله- خطيب بارع متمكن من اللغة وملازم لمنبر الدعوة وإلقاء المحاضرات والدروس والمواعظ، في مساجد الرياض، وفي المسجد الحرام، وبخاصة في موسمي رمضان والحج، وفي الطائف.
وقد امتاز سماحته -رحمه الله- برجاحة العقل وحسن البيان، والحرص على جمع الكلمة، ووحدة صف الأمة، يقف من الأحداث وبخاصة الموجات الفكرية المتطرفة والمسالك المنحلة، يقف موقف العالم رجل الدين والدولة، الذي يوازن بين المصالح والمفاسد من منظور السياسة الشرعية التي هو أحد رموزها.
إضافة إلى المحاضرات والندوات، والمشاركة في مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه.
وغير ذلك من المناشط العلمية المباركة في العلم والتوجيه والإرشاد والإصلاح.
شيخ جليل وما ضمت عباءته
غير المكارم في شتى مباديه
عمر من العلم والتقوى يجملها
صدق الفتاوى لمن قد جاء يفتيه
متواصل مع ولاة الأمر في صدق النصح، وحسن البطانة، نحسبه كذلك والله حسيبه.
لقد رسم القدوة للمسؤولين من بعده -كبارهم وصغارهم- في التبكير إلى الصلاة، فلا يكاد يؤذن المؤذن إلا وهو فيه مصلاه في الصف الأول، ومع أن هذا من أعظم المسؤوليات والواجبات لكنه لم يؤثر أبداً على عمل الشيخ وحفظه لوقت العمل فهو من أول من يدخل مكتبه إن لم يكن أولهم، ومن آخر من ينصرف إن لم يكن آخرهم، فضلاً عن إصطحابه لأعماله التي لم يتم إنجازها في المكتب لينجزها خارج وقت الدوام.
حينما تنظر من يغشى مجلسه في مكتبه أو منزله تراهم ما بين قاض يعرض عليه همومه القضائية في وظيفته أو شأنه الخاص، وما بين صاحب دعوى يطلب منه النظر في دعواه التي لدى القاضي الفلاني، أو المحكمة الفلانية، قد جاءوا إليه من أطراف المملكة المترامية الأطراف، وما بين محتسبين حضروا لإطلاع الشيخ على ما يرون أهمية إطلاعه عليه في شؤون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن طالب شفاعة ليعينه في الوصول إلى حقه، وكل هؤلاء يصدرون من عند الشيخ وقد عالج موضوعاتهم بما تقتضيه الأنظمة، والإدارة، والحكمة والتوجيه بما يعين على حل هذه القضايا، ناهيكم عمن يأتيه من الأمراء والوجهاء للسلام أو أخذ المشورة.
وتأملوا في هذه الواقعة لتدركوا ما عليه الشيخ -رحمه الله- من المسؤولية الشاملة، وليس إدارة القضاء فقط – وأعظم بها من إدارة-، ولكنه يشعر أن مسؤوليته أعظم، وأن التعامل مع من يعمل معه أوسع من أن يكون تطبيق أنظمة، أو إنهاء معاملة أو نحو ذلك على أهميته.
تقول الواقعة: دخل على سماحته أحد القضاة، وقد حصل له حادث مروري مروع، طالباً تمديد إجازته بسبب هذا الحادث، فسأل الشيخُ القاضيَ عن أحواله فأجابه بما يسر الحال، فدقق الشيخ في الأسئلة، والقاضي ظن أنه يريد أن يرى هل هو مستحق لتمديد الإجازة، ولكن مراد الشيخ غير ذلك إذ أدرك الشيخ أن القاضي قد تلفت سيارته بالكامل، فما كان من الشيخ إلا أن اتصل بإحدى وكالات السيارات وعمدهم بصرف سيارة للقاضي، وهو يعرف قيمة السيارة التي تناسب مقام القاضي، فاغرورقت عينا القاضي بالدموع حامداً الله شاكراً أن كان على رأس القضاء مثل هذا العلم الشامخ.
وفي واقعة أخرى عُرِضَ على الملك فهد -رحمه الله- معاملةٌ يرغب فيها صاحبها إصدار أمره بإعادتها لمجلس القضاء لإعادة النظر في بعض وقائعها وأحداثها فرفض الملك وأظهر تضايقه وقال: ما يصل إلينا من الشيخ صالح لا يراجع، فهو أدرى بعمله، ثم أثنى ثناءً عاطراً على الشيخ -رحمهم الله جميعاً-.
وأذكر أننا في هيئة كبار العلماء حينما افتقدناه أول مرة بعدما ألم به المرض أننا فقدنا شيئاً كبيراً، فقد كان له حضوره، وهيبته، ورأيه فيما يعرض من موضوعات.
وأذكر كذلك حينما كلفت بإدارة مجلس القضاء كان بين صدور الأمر الملكي بالتكليف والمباشرة قرابة أسبوعين، وفي هذين الأسبوعين لا يزال المسؤول هو سماحة الشيخ -رحمه الله-، فطلبت زيارته مع أنني أزاوره قبل ذلك فهو في مقام الوالد.
فعندما حضرت عنده في مجلسه استقبلني استقبالاً كريماً، وبعدما أبداه من حفاوة جزاه الله خيراً وأحسن إليه طلبت منه النصيحة والمشورة في هذا الأمر فأبدى لي في هذا شيئاً كثيراً، استفدت منه، ثم قلت له إن هذه المدة المتبقية هي تحت إدارتكم وتوجيهكم فاعملوا ما ترون، وإن كان هناك ما ترغبون من القيام به أو إكماله إن لم يكن الوقت كافياً لإكماله فأنا أكمله على ما توجهون به.
فذكر لي بعض المسائل والموضوعات المرفوعة لدى بعض الجهات الإدارية كالمتبع، فقلت ما أجريتموه لا أخرج عنه، وبالفعل بعدما باشرت العمل كان من المتبع لدى الإدارات والتنظيمات الحكومية أنه إذا جاء مسؤول جديد وثمة موضوعات مرفوعة من المسؤول السابق فإن الإدارة أو الجهة تعيد المعاملات لينظر فيها المسؤول الجديد.
والحمدلله: أتممت الإجراءات على ما بدأها رحمه الله.
أما علاقته بالوالد -رحمه الله- فهي قديمة قبل أن يجتمعا في مجلس القضاء فسماحة الشيخ صالح كان يزاور الوالد كثيراً في الرياض، وفي مكة المكرمة، وفي الطائف، ويحبه ويقدره ويعرف مكانته.
كما كان الوالد -رحمه الله- حفياً به، مقدراً علمه، وفضله، ومكانته، وحرصه على حفظ مكانة القضاء بخاصة، ومكانة العلم وأهله بعامة، وكان الوالد يصطحبه حين يخرج في بعض متنزهاته لما يتصف به -رحمه الله- من أنس، ولطف حديث ومشاركات أدبية، ومطارحات شعرية، فالشيخ صالح إخباري لبق يحفظ من القصص والنوادر والطرائف والأشعار الشيء الكثير ويحسن الإيراد والاستشهاد، والوالد -رحمه الله- يأنس به ويستظرف مجلسه.
وبعد ومع كل هذه الحسرة على فقد أهل العلم والأسى لفراقهم، فلا يأس ولا قنوط، فالخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، وقد مات سيد الخلق، وقدوة العلماء، وإمام الأتقياء، ومن بعده أصحابه النجباء، ثم من تبعهم بإحسان من النبلاء، ولم يزل دين الله باقياً وشأنه ظاهراً.
ولا يزال أهل الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي، فإنما هي أعظم المصائب».
نعم كل مصاب بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلل.
وإنما المقصود هو بيان مكانة العلماء ليعرف مكانتهم، وينهل من علمهم، ويهتدى بهم، ونحفظ منزلتهم.
مات اللحيدان فالأرواح تبكيه
وذاك مسجده ناحت نواحيه
مات اللحيدان ركن العلم في وطني
قوموا إلى العلم يا قوم نعزيه
* * * *
إن العظيم وإن توسد في الثرى
يبقى على مر الدهور مهيباً
* * * *
ولفقده في كل قلب لوعةٌ
ولذكره في حمده ترديد
فزوال ذاك الطود بعد ثباته
ينبيك أن الراسيات تبيد
اللهم ارحم علماءنا ومشايخنا رحمة واسعة، وأبق ذكرهم وعلمهم وفضلهم في أنواره الساطعة، وآثاره النافعة، اللهم من أحييته منهم فبارك في علمه، وعمله، وسعيه، ووفقه، وسدده، وثبته، وأيده، ومن مات منهم فأمطر عليه شآبيب رحمتك، واغفر له، وارحمه، وتجاوز عن سيئاته، وعوض الأمة عنه خيراً، وأصلح عقبه وذريته، إنك كريم جواد سميع الدعاء.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين .

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button