بدا المنظر سرياليًّا مذهلًا، غريبًا. سمعت بمشاريع الهدم والتنظيم للمناطق العشوائية بجدة، ولكنني لأول مرة أرى على مدى البصر ملايين الأمتار المربعة من الأحياء والمباني، وقد تحوَّلت ركامًا، وبدأت أستعيد تاريخها وأتساءل عن مصير سكانها وأحوالهم. ثم توالت الأسئلة في ذهني عن أهداف المشروع، وأسباب تسارع تنفيذه على هذه المساحات الهائلة دفعة واحدة، ومدى الاستعداد للتداعيات، وتأثيرها على المجتمع وبيئة العقار والأعمال.
من حيث المبدأ، لا أستطيع إلا أن أؤيد القرار بإزالة عشوائيات المدن، فقد كنت من أوائل الذين كتبوا، وطالبوا على مدى أربعين سنة بتسوية هذه المشكلة الأزلية والمتنامية. فخلال ثمانية عقود، قبل إزالة سور جدة عام ١٩٤٧م وبعده، نشأت أحياء خارج السور، كالسبيل وغليل والهنداوية وبترومين والمحجر والنزلة اليمانية وقويزة وبني مالك، لاستيعاب الهجرات الوافدة من داخل وخارج البلاد، والمتخلفين عن العودة بعد أداء مناسك الحج والعمرة، في مساكن وأحياء بدائية تفتقد لمقومات الحياة الحديثة، فلا شوارع ولا مدارس ولا مستشفيات، ولا خدمات صحية وأمنية وعامة.
الهروب إلى الأمام
تجاهلنا المشكلة بالهروب إلى الأمام وتخطيط المدينة بشكل يستوعب الأحياء العشوائية، ويحيطها بأخرى منظمة ومخططة، باتجاه الشمال الغربي والشرقي، وتوفير الخدمات الدنيا من كهرباء وماء، وفتح بعض الشوارع التجارية وسطها وحولها. شجَّع ذلك على قيام المزيد من هذه الأحياء في كافة أنحاء المدينة؛ خاصة على أطرافها. فتمَّ الاستيلاء على أراضٍ عامة وخاصة، في المناطق البيضاء والمخططة على وجه السواء، بوضع اليد وإقامة الأحوشة والبيوت الشعبية، وفرض الأمر الواقع، ثم المطالبة بالخدمات العامة.
شكَّل هذا الوضع غير الطبيعي ضغوطًا هائلة على الإدارات الحكومية، خاصة الصحية والأمنية والرقابية، وشكَّل تحديًّا لتوصيل شبكات الخدمات العامة والتعامل مع الحرائق والأوبئة والاحتياجات الطبية الطارئة، وتقديم المساعدات الاجتماعية. إضافة إلى صعوبة تنظيم التركيبة السكانية في كثير من هذه الأحياء التي تجمعت فيها جاليات معينة، ولجأ إليها الذين اختاروا الإقامة غير النظامية أو بلا هوية.
دراسات بلا تنفيذ
وخلال العقود الماضية وضعت دراسات عديدة حول تصحيح هذه الأوضاع، ولكنها لم تخرج بتوصيات حاسمة، أو شاملة. فقد كانت الأهداف متواضعة وجزئية ومرحلية، ويتوقف تنفيذها عندما تواجهها عقبات مالية وإدارية ومجتمعية، كما في مشاريع أحياء الرويس وخزام والبلد.
وفي كل مرة يتأجَّل الحل وتتضاعف المشكلة. حتى قررنا أخيرًا مواجهتها بالجملة وبالحلول السريعة، الشاملة، الحازمة، والتعامل مع التداعيات والمشاكل الناتجة في حينها، وخلال التنفيذ. مع الأخذ في الاعتبار أن الظروف باتت اليوم مواتية؛ لأن المُتاح من الوحدات السكنية والتجارية في بقية مناطق جدة “المنظمة” يبدو كافيًّا لاستيعاب سكان المناطق المزالة، بعد خروج مئات الآلاف من العمالة الوافدة، وإغلاق كثير من المحلات التجارية لأسباب مختلفة يتعلق بعضها بالأنظمة الجديدة، والتحديات التي تواجه أصحاب الأعمال، وحملات محاربة التستر، مع انخفاض عام للإيجارات.
مخاض التغيير
المستقبل يبدأ من هنا، فملايين الأمتار المربعة في قلب المدينة، من البحر إلى الجبل، ستتحول مع الخطط الإنمائية الجديدة إلى مناطق سكنية وتجارية وترفيهية تبدأ من حيث انتهى الآخرون: استثمارات وطنية وأجنبية بمئات المليارات وأحدث التصاميم والتقنيات. مشاريع تستلهم روح المدن والمناطق المستحدثة في نيوم والرياض والدرعية وسودة عسير. مواصفات ومعايير تُمثل ملامح السعودية الجديدة، الجميلة، ومتطلبات الرؤية ٢٠٣٠، الهادفة لتحقيق جودة الحياة، والتنمية المُستدامة، والطاقة المتجددة، والبيئة الخضراء، وبدلًا من أن يهرب السكان إلى الشمال بحثًا عن أحياء أرقى، سيجد كل ساعٍ إلى حياة مثالية لأسرته وعمله ما ينشده في قلب المدينة النابض.
ولكن من الطبيعي أن تغيب عن المتضررين هذه الرؤية الجميلة خلال مرحلة مخاض التغيير المؤلم، والمفاجئ السريع، حتى لو سمعوا بها أو تخيلوها. فصاحب الحاجة أعمى ولو كان بصيرًا، ومن يركض اليوم بحثًا عن مأوى أو محل بديل، يشده تاريخ من الذكريات الأثيرة والاستقرار الطويل، لن يتوقف ليرى مستقبلًا أبعد من مستقبل أسرته وعمله على المدى القصير.
العون والتعاون
من حق من يمرّ بهذه المرحلة الانتقالية علينا كمجتمع مسلم متكافل أن نعينه ونخفف من أعبائه، وأن لا نسمح باستغلال تجار المُعاناة برفع الإيجارات وأسعار الخدمات واستثمار التعويضات، وأن ندعم الجمعيات الخيرية لمساعدة الأسر النازحة، وأن نخرج زكاة رمضان قبل أوانها لدعم المستحقين، وأن تدير “الشئون الاجتماعية” مشروعًا متكاملًا لتنسيق كل هذه الجهود.
كما نأمل من صندوق الاستثمارات العامة السخاء في التقدير، والتعجيل بصرف التعويضات، وأن تشمل المستأجرين لمساعدتهم على الانتقال، وتعويضهم عن خسائرهم في الديكورات والأثاث والإيجارات المسبقة الدفع.
لنسدد ونقارب، فللزمن تقلبات، وللناس حاجات، وللضرورات أحكام، ودولتنا -أعزها الله- أحن على الأهالي من أنفسهم، وأحرص على أن تشرق شمس المستقبل علينا جميعًا، ولن ينسى قطار التنمية السريع أحدًا في المحطة.
فعلا لابد من التحرك في التنفيذ لقرارات ومخططات سابقه ، ولو ان التوقيت المتسارع اصاب المواطنين بهلع لدرجة ان كل صباح يستفسر المواطن هل تمدد الهدد الى ارضي او بيتي ، نظرا لعدم وضوح المواقع ضمن المخطط او التفيير المفاجئ للمواقع .
كلنا امل كما ذكره الدكتور من هيئة الاستثمار في التعجيل في التعويض وعدم الدخول في بيروقراطية الروتين وكذلك ليشمل التعويض جميع المتضررين. كرما في حنان الدوله
والله المستعان