تُعاني بعض الدول من العشوائيات على أطراف مدنها الكبيرة؛ وذلك نتاج هجرات متتالية لتلك المدن منها هجرات من داخل الدولة وهجرات عابرة للحدود يجمع بينهما قواسم مشتركة أهمها تدني الحالة الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية لهذه الفئات المهاجرة بالمقارنة بسكان المدن التي يقصدونها ما يؤدي لتكتلهم في مجمعات بدائية مؤقتة بجوار المدن الكبيرة تمهيدًا وتحفزًا لدخول المدن والاندماج مع سكانها غير أن ذلك التحفز؛ وذلك الهدف يصطدم بواقع حياتي صعب يجعلهم ينكفئون على أنفسهم فيتقوقعون بهذه المجمعات باستثناء القليل منهم الذين يحصلون على فرصة الاندماج، والانتقال للعيش بمستوى حياة أهل المدينة لامتلاكهم قدرات ومهارات مميزة سهَّلت عليهم الحصول على فرص وظيفية ودخل عالٍ وفي مدن (مكة المكرمة وجدة والطائف)، تشكَّلت تلك العشوائيات، وأصبحت مشكلة مؤرقة لعدة عقود فتكاثرت وتناثرت كبقع سوداء على جسد حسناء، ومالبثت أن تمددت بفضل النمو السكاني الطبيعي، ومن تخلف من الحجاج والمعتمرين عن العودة لأوطانهم، وتشكلت داخلها مجمعات صغيرة لبعض الجنسيات ثم انضم إليها العمالة الهاربة من كفلائهم؛ فأخذت هذه المجموعات الصغيرة في التوزع على أطراف المدن بعد أن زحفت عليها المخططات العمرانية وتجاوزتها، وتم التزاوج والتكاثر بين أبناء تلك الجنسيات؛ فخرج لنا أجيال من جنسيات مختلطة بأفكار وثقافات مختلطة تُعاني من انفصام الشخصية الثقافية بين ثقافات الجنسيات المتوالدة منها، وبين ثقافة المكان الذي يعيشون فيه وكبرت مع الوقت، وأصبحت مشكلة مؤرقة لما تشكله من بيئة خصبة للأمراض الأخلاقية والعضوية وبؤر للفساد، وتأخر الحل وتأخرت المعالجة.
ثم جاء عصر الحزم والعزم عصر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله- بعلاج المشكلة بل واجتثاثها من جذورها، والقضاء عليها؛ فصدرت قرارات الإزالة لعدد من الأحياء بمدينة جدة، وبدأت الإزالة والهدم في سابقة لم تحدث من قبل، وكانت حدثًا غير عادي لسرعة الإنجاز وعدد الأحياء التي شملتها وجدولة المواعيد، وخرج علينا أناس يولولون بالمظلومية دون علم ولا هدى بأسباب المشكلة وآثارها ولا بعلاجها، وتلقفتها الأبواق المعادية لهذه البلاد بالتطبيل والتشجيع، رغم أنه من الطبيعي وليس غريبًا أن يكون للقرار آثار جانبية؛ فهو علاج ودواء لمشكلة وعلة مزمنة والدواء له، ولا شك آثار جانبية، ولكنها مؤقتة ويمكن تداركها -بإذن الله-ولن تكون غائبة عن القيادة الرشيدة، وهذه الإزالات تبشر بغد واعد تبرز معه صورة المدينة العصرية بعد إزالة التشوهات عن وجه العروس.
وما يفتح شباك الأمل، ويبشر بغدٍ واعد بانتهاء هذه التشوهات والعشوائيات للأبد هو ما حدث من تغير في الأداء الحكومي وديناميكيته، وقدرته على الرقابة، وسرعة الحركة لمنع تشكل تلك البور مرة أخرى.
كذلك فإنني أعتقد أن منصة أحكام المنصة الرقمية التي أنشئت لإصدار صكوك التملك لمستحقيها على الأراضي التي قاموا بإحيائها تُقدم خدمة جليلة بما تحتويه من قاعدة بيانات ضخمة ومعلومات دقيقة مدعمة بالصور الجوية، والتحديد الجغرافي الدقيق لأغلب العشوائيات والتعديات ما يمكّن الجهات الحكومية من تحديد وكشف ومنع أي تعدٍ جديد، لذلك فإنني أطالب بأن تستمر الإزالة وتحث الخطى نحو مكة المكرمة والطائف؛ للقضاء على تلك المشكلة المتفاقمة، والتي لا تليق بمكانة مكة، ولا تليق بالسعودية إحدى دول العشرين، ولا تنسجم مع رؤية المملكة 2030م.
فهل تستثمر الجهات المعنية هذا الزخم وهذه القرارات في القضاء على العشوائيات، وتضع الآليات التي تمنع ظهورها مرة أخرى، وهل انتهت العشوائيات للأبد ؟ نرجو ذلك.