يقوم الرضا في نفوسنا جِبلّةً بما يتقاضاه من أثمان الأخذ، وبقدر ما نحصل عليه ويصل بنا للاكتفاء نتقارب مع ذلك الرضا، فالذي حُرم الذرية سيحل به الرضا بمجرد أن يُبشر بمولود، والذي أرهقه الفشل في دراسته سيكون راضياً تمام الرضا في أول خطوة في سلسلة النجاح، فيستقيم “عين العطاء عطاء”، ويتحصّل بالمعطى أسباب الرضا، وهذا ما درجت به نواميس الكون ولفّت به قوانينه، ولكنّ هناك قانون آخر، يعاكس السابق في المعطيات ويوافقه في النتائج، بل وربما يتفوق عليه، ولكن لمسببات الجهل دين تتبعه الأرواح، وتؤمن به القلوب، وتجسّده الجوارح.
يكون المنع عطاءً في حالات كُثر، وأولها وأكثرها وأشهرها حالة الخالق مع المخلوق، وربما هي حالة عامة إذ لا يوجد مخلوق لم يعطَ بالحرمان ويجاب بالعصيان، فأنت وأنا وهو وهي قد حرمنا الكثير، وفقدنا الكثير، ولازالت الحياة تزخر بهذا، والجميل أن كل تلك المواقف وجل تلك الأحداث كانت من باب كرم الهبة الربانية وعظيم العطاء الإلهي،
لو تحققتَ من حالك ومألات المطالب التي أفنيت عمرك لها ترقب، وكيف أصبح ذلك الحرمان عطاء دفاق، وكيف تحقق عظيم الكرم ومطلق الرحمة وعجيب الفضل من الله حين منعك في ذلك اليوم البعيد، وهذا في باب ما علمناه وأما ما لم نعلمه فالقائمة تطول، والمواقف أكثر، والأحداث من هذا النوع معجزة للعد، موجعة للحد.
حالة العطاء بالمنع متلازمة الحب، وهذا ما نعيشه مع الله في كل يوم، فبقدر ما أحبك ليعطيك، فقد أحبك أكثر ليمنعك، وربما منعك ليسمعك، أو ليقربكَ أو ربما ليصفح ويغفر، ويصبح غير المُنال رصيد تحمد عقباه.
ولو تصفحت تلك الحالة ذاتها مع المخلوقين لوجدتها جلية مع أكثر المخلوقات حباً لك وأكثرهم وفاء وأبلغهم خوفاً ورأفة (الوالدين) هم وحدهم من تتجلى فيهم، ويعبرون عنها وتعبر عنهم، ويأتي الزمان مليئاً بالمواقف التي أخرجا حكم المنع كغصة ويتجرّعا قرار الحرمان ولا يكاد يُساغ، ولكن للحب تكاليفه كما يقال.
الحياة مليئة بمن يمنعك حباً وكثير من حولك يصنعون ذلك، وما كان الأم والأب هم المثال إلا لأنهم عالية هرم وسارية خيم.
الجهل بالمأل ومحدودية البصيرة وضعف النظر لقابل هو وحده من يخلخل ميزان المستقبل وبطبيعة الحال لا يعطينا تصوراً صحيحاً، ولابد لبشريتنا أن تُلقي بظلالها في هذا، ولكن ما يفاقم الجهل ويعيده بردة فعل أسواء هو محاكمة الأقدار على أنها تقصير ونقص وعجز، وكأن تلك البغية المدية قد أعجزت صاحب الأمر فتتملكنا الحسرة والبكاء على فائت، والحق أنها رصيد غير مستحق وهدية مؤجلة ولكن لمن ملك اليقين واستعمره الظن الحسن.
ختاماً…. مطالبك بجميع مستوياتها لن تعجز صاحب الأمر أبداً، ولكن لصاحب الأمر علم تجهله وحكمة تفتقدها، والله غالبٌ علي أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.
0