لطالما جذبت كل منَّا في إحدى مراحل عمره الأحاديث عن تلك التجربة الفريدة التي تبهج الحياة بروح الإنسان، تزهو بها الأيام فتضيء بداخله كل ما كان خافتًا أو مُعتمًا.. فتبدو نظرته للحياة مماثلة لوصف السندريلا: الحياة بقى لونها بمبي بمبي..
وهذا الشعور له أدلته على المستوى العلمي؛ فقد وجد الباحثون في الأساس البيولوجي العصبي للروابط الاجتماعية أن الوقوع في تجربة الحب يجعل لدى الأفراد تنظيمًا أفضل للاستجابات الجمجمية العصبية، وقد يُمثل ذلك أحد الميكانزمات المساعدة لتخفيض الضغط وتحسين الصحة، إن المرور بخبرة أن يكون الفرد محبوبًا قد تحميه من الضغوط بيولوجيًا، وتؤدي إلى تفاعل أفضل مع الانفعالات السلبية.
ورغم الإيمان بأهمية الحب وأثره العميق على حياة الأفراد، إلا أننا في عصر السرعة نلاحظ أنه غدى الانجذاب لهذه التجربة سريعًا، وباتت العلاقات بنفس وتيرة السرعة تبدأ، وتتطور سريعًا بلا وعي لمفهوم هذا التجربة الحقيقي..وتنتهي بحذف وحظر وإخفاء ظهور وكثير من الإحباط والألم والانكسار.
السؤال الآن ماذا نعرف عن تجربة الحب من منظور نفسي؟
إن العالم النفسي “روبرت ستيرنبرغ” طوَّر نظرية ثلاثية تتضمن ثلاثة مكونات للحب، وهي: العاطفة أو الانجذاب البدني والدوافع الرومانسية، الألفة ومشاعر القرب والترابط، الالتزام، ويتضمن القرار ببدء علاقة والحفاظ عليها، والالتزام بمسؤولياتها.
ورأى أن هذه المكونات قد تتواجد في العلاقات بصور مختلفة، فإذا تواجدت العاطفة والألفة معًا يكون حبًا رومانسيًا، وإذا تواجدت الألفة والالتزام نشأ الرفق، ولا يكون الحب التام إلا عند ظهور جميع المكونات الثلاثية (العاطفة، الألفة، الالتزام)؛ وذلك بمستويات مرتفعة وبشكل متوازن عبر كلا الطرفين.
إن الخلل في أحد هذه المكونات الثلاثة قد ينشأ بسببه ضعف في العلاقات العاطفية، ويستمر أحد الطرفين أو كلاهما في محاولات التشبث بعلاقة غير صالحة يستنزف فيها الكثير من المشاعر الإنسانية؛ نتيجة عدم الوعي بالمكون المفقود.
يا صديقي إن غياب الالتزام في العلاقات بين الأشخاص عامل محوري في إعادة النظر في مدى ملاءمة العلاقة من عدمه؛ فقد أشارت إحدى الدراسات العلمية أن عامل الالتزام كان أفضل متنبئ عن الرضا عن العلاقة من وجهة نظر الزوجات الراشدات في الولايات المتحدة؛ حيث إن العاطفة قد تضعف مع الوقت لكن الالتزام يظل قويًّا غالبًا.
إن الوعي بهذه المكونات منذ بداية العلاقات قد يجعلنا على بينة من خلال ملاحظة وجودها من عدمه، وكذلك الانتباه عند افتقاد أحدها، فكما هو معلوم أن معرفة السبب يُساعدنا في فهم الأحداث بصورة جلية، وبناء على ذلك يزودنا الوعي بمعرفة الإطار الحقيقي للعلاقة مما يُجنبنا التشتت في العلاقات العاطفية.
ماذا بعد وجود المكونات الثلاثة، كيف نساعد على تعزيز نجاح العلاقات؟
لقد ذكر الباحثان “جوتمان وسيلفر” سبعة مبادئ أساسية لنجاح الزواج، وهي:
– تعزيز المسافات عبر خارطة الحب: وهي تُعد بمثابة خارطة طريق، يكتشف كل شريك فيها خارطة المحبة لشريكه، والتي تتضمن اهتمامات ومخاوف وآمال الشريك وما يحب وما لا يحب، بمعنى المعرفة الكاملة للشريك مع ملاحظة أن هذه الخارطة قد تتغير مع الوقت؛ ولذا على كل شريك أن يحرص على تحديث خارطته عن الطرف الآخر باستمرار لتعزيز المسافات دومًا.
– تغذية مشاعر الإعجاب والتعبير عنها: ويتم ذلك من خلال تعظيم الصفات الإيجابية في الشريك والتذكير بأسباب الإعجاب لكل منهما، والتقليل من التفكير في الصفات السلبية، وقد يكتب كل شريك ثلاث صفات تعجبه في شريكه، ويدعمها بالأمثلة ويتم تبادلها بينهما، تُساعد هذا الطريقة في استمرارية الصفات الإيجابية في الشريك بل وتقويتها، وإعادة تنشيط الإعجاب والاعتزاز بينهما، وهي عادة ذهنية ممكن تعلمها.
– لا تعمل بمفردك بل اسعَ للتقارب لا للتباعد: وذلك يشير إلى قيام كل شريك بكثير من الأنشطة اليومية بمفرده، والتي تُشكل جزءًا كبيرًا من اليوم، وأن مشاركة الشريك الآخر فيها يقوي التفاعل، ويزيد من رصيد بنك التواصل بينهما مثل مشاهدة الأخبار معًا أو التحدث أثناء تناول الطعام أو الإنصات ومشاركة المشاعر.. فقد اتضح أن الأزواج السعداء لديهم مبدأ هام، وهو “عندما تتألم يتوقف العالم وأنصت لك”..إلخ، إن الحرص على وجود لحظات مشتركة يومية تُشكل فارقًا ضخمًا في العلاقات.
– اسمح لشريكك بالتأثير عليك: وذلك من خلال إيجاد أرضية مشتركة تُتيح التفهم المشترك والتعبير عن العواطف وتقديرها بدلًا من التشبث بالرأي، واتخاذ القرارات المفردة وفرض السلطة.
– حل المشاكل القابلة للحل: والتي هي غالبًا مشاكل موقفية بسهولة يمكن حلها في الوقت الحالي؛ وذلك لكيلا تصبح بمرور الوقت تراكمات صعبة الحل، وذلك يتضمن التعامل الليَّن، ومحاولة التوصل إلى حلول مشتركة والمبادرة إلى الإصلاح والتهدئة، ومداوة الجروح العاطفية.
– تغلب على الجمود (التعقيد): وهي تتضمن المشاكل غير القابلة للحل، والتي تعود غالبًا لطبيعة الاختلاف البشري بين الناس وتفاوت صفاتهم الإنسانية، وهذا يتطلب من كل شريك الاحترام والتقبل والتغاضي المتبادل بينهما.
– إيجاد معنى مشترك: وهذا يتضمن صنع حياة ذات أهداف مشتركة بينهما تضفي المعنى لحياتهم، ويشمل ذلك:
• طقوس التواصل: وهذا يعني وجود أحداث منظمة روتينية مستمرة يوميًا أو أسبوعيًا أو شهريًا تستمتع بها الأسرة، وتُشكل جزءًا من هوية الأسرة مثل رحلة شهرية.
• الأهداف الشخصية لكل شريك: معرفة الأهداف والأحلام الشخصية، والدور لكل شريك، وتبادلية الدعم لتحقيقها.
• الأهداف المشتركة: وهي وجود أهداف يكافح الشريكان لتحقيقها، وتتعلق غالبًا بزواجهما وأسرتهما، والمساعدة بينهما في تحقيقها مما يُعمق الاتحاد بينهما.
• الأهداف السامية المجتمعية: وهي وجود أهداف تتعلق بالمجتمع يتشاركان في تحقيقها معًا مثل مشاركة الأعمال الخيرية والداعمة للمجتمع.
إن الحب وازدهار العلاقات العاطفية أمر مرغوب لكثير من البشر..لكن نجاحها بعد توفيق الله -عز وجل- قد يعود في كثير من الأحيان إلى مدى نضج اختياراتنا، ومدى تطبيقنا للمبادئ الداعمة للعلاقات العاطفية، وأختم مقالي بقول الرافعي: “سبحانك اللهم، إن هذا الشجر ليتجرد ويذوي ثم لا يمنع ذلك أن يكون حيًا يتماسك ويشب، وإنه ليخضر ويورق ثم لا يعصمه ذلك أن يعود إلى تجرده ويبسه، فما السعادة أن نجد الزينة الطارئة ولا الشقاء أن نفقدها، وما الشجرة إلا حكمة منك لعبادك تعلمهم أن الحياة والسعادة والقوة ليست على الأرض إلا في شيء واحد هو نضرة القلب”.
0