الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من نبيّ من بعده، وعلى آله وصحبه ومن على آثارهم اقتفى رشده، ثم أما بعد:
فإنه لا يوجد مثل التاريخ معيارًا لقياس مجد دولة وعزّها بين الدول؛ فكلما كان تاريخ تلك الدولة عريقًا وحافلًا كلما حق لتلك الدولة الفخر بين الدول، فالتاريخ هو مستودع القيم والمبادئ والفضائل قبل أن يكون مرتع الحوادث والوقائع، وليس مثل التاريخ في شحذ الهمم ودفع النفوس الأبيّة لخدمة أوطانها العزيزة، وليس مثل التاريخ في فهم الحاضر واستشراف المستقبل، فبمعرفة الماضي المجيد يُمكن تصوّر المستقبل المشرق، وبالتالي إكمال مسيرة الأجداد في صناعة الأمجاد.
والتاريخ السعودي هو تاريخ دولة عربية ضاربة جذورها في عمق التاريخ الإنساني؛ فعلى أرض شبه الجزيرة العربية (بحيرة تبوك) يوجد موقع آثار أقْدام أقدم إنسان مشى في المنطقة، وعلى هذه الأرض الطاهرة (مكة المكرمة) انبثق نور الإسلام الخالد وانتشر في مختلف أنحاء البسيطة، وعلى هذه الأرض (الدرعية) تأسّست دولة – ولا تزال وستبقى بعون الكبير المتعال – حاملة راية العدل والسلام والازدهار لشعبها ولبقية شعوب العالم كافة، وكان يوم تأسيسها سنة 1139هـ/1727م على يد المرحوم الإمام محمد بن سعود منعطفًا تاريخيًّا مُدوّيًّا نقل معظم شبه الجزيرة العربية من ذُلّ الشرك والبدعة إلى حضن التوحيد والسُّنة وعزّهما، ومن بؤس الحياة القاسية إلى رغدها، ومن الخوف على النفس والعرض والمال إلى أمنها، ومن شرّ التشرذم والتفكّك والتّناحر إلى عزّ الوحدة وقوتها.
هذا اليوم الخالد الموافق ليوم 22 فبراير من كل عام، هو اليوم التي ظهر الكيان السعودي في أحلى أبّهته وأجمل صورته، وكان هذا الكيان من قبل موجودًا، ولكن غبار الشقاق والخلاف طمسه، فكان يوم التأسيس يومًا أزال ما علا سطح المعدن السعودي النفيس من تراب الزمن وشوائب الدهر، لينجلي بعد ذلك لمعانٌ يأخذ بالقلوب قبل الأبصار، ويُعلي مكانة دولة هي بين الدول عالية المقدار.
فيوم تأسيس الدولة السعودية الأولى على يد الإمام محمد بن سعود له أهميته الكبيرة في الذاكرة التاريخية السعودية والعربية على حدِّ سواء؛ فهو يومٌ يؤكد العُمق التاريخي والحضاري للمملكة العربية السعودية كدولة راسخة البنيان، كما يُعدُّ يومًا خالدًا في ذاكرة الأمة العربية جمعاء، لأنه أضاف إلى الصرح العربي الشامخ لَبِنَة قويّة عزّزت أركانه وشدّت بُنيانه، ولا تزال الدولة السعودية – بحمد الله تعالى وعونه – في مقدّمة المدافعين عن مصالح العرب وقضاياهم العادلة في المحافل الإقليمية والدولية.
وتكمن أهمية يوم التأسيس المجيد في كونه انطلاقة مباركة في مسيرة وحدة العرب السياسية، وهي وحدة لم تعرفها الأمة العربية منذ عهد النبوة والخلافة الراشدة، فلا عجب إذن أن يُشاد بهذا اليوم ويُعاد إحياء مجده؛ فمن “دولة المدينة” التي كانت قائمة بالدرعية، أقام أئمة آل سعود وملوكها على مرّ الزمن دولة واسعة مترامية الأطراف شملت مساحتها معظم مساحة شبه الجزيرة العربية، وصارت صاحبة النفوذ الأكبر في كامل المنطقة، ونقلتها إلى عصر جديد عنوانه الاستقرار المتين والأمن الشامل في كافة مناحي الحياة.
وقد ارتبط هذا اليوم التاريخي بشخصية قيادية فذّة حُقّ على الدَّارسين أن يسبروا أغوارها ويغوصوا في أعماقها ليستخرجوا مكنون لؤلؤها، هذه الشخصية هي شخصية الإمام محمد بن سعود الذي عمل منذ بداية حكمه – الذي دام أربعين عامًا هجرية – على توطيد الاستقرار داخل الدرعية وإعادة اللحمة بين المتنازعين من أهل البلدات النجدية الأخرى، وكان هذا نابعًا ممّا حبا الله هذا الرجل من حُسن سيرة ومعاملة ووفاء وسداد رأي وحسن التدبير؛ فقد تتلمذ على يدي والده الأمير سعود بن محمد وحظي تحت كنفه برعاية دينية وعلمية وعسكرية عملية عالية، وهو ما أكسبه قدرة وكفاءة إدارية وسياسية أكسبته احترام وتقدير أهالي الدرعية وعموم أهل نجد.
وإن تساءل سائلٌ عن علاقة يوم التأسيس بيوم البيعة الشهيرة بين الإمام محمد بن سعود وشيخ دعوة الإصلاح محمد بن عبد الوهاب سنة 1157هـ/1744م في تحديد تاريخ قيام الكيان السعودي المبارك، فإن الجواب بسيطٌ متيسّر؛ فيوم البيعة المباركة والتحالف المجيد بين التوحيد الديني والتوحيد السياسي هو في حقيقة الأمر استمرار ليوم التأسيس؛ حيث قامت نواة الدولة السعودية الأولى في الدرعية، فبقيام هذه الدولة سنة 1139هـ/1727م تمّتْ البيعة التاريخية سنة 1157هـ/1744م ونجحتْ واستمرّتْ، فقد سبق للشيخ محمد بن عبد الوهاب أن طلب الحماية من أمير العُيينة ولكنه لم يجدها لتبعية ذلك الأمير لبني خالد حُكّام الإحساء، ولكنه وجدها عند ابن سعود لأن الدرعية كانت تتمتّع باستقلال سياسي واقتصادي تام عن أيّ حاكم محلّي أو إقليمي، والبنية السياسية للدولة السعودية متأسسة ومهيأة لنصرة الدين. وقد درجتْ المصادر التاريخية على اعتبار سنة 1157هـ/1744م بداية تأسيس الدولة السعودية الأولى بناءً على احتفاء تلك المصادر بهذا الحدث بسبب تأثيره اللاحق على مجريات بقية الحوادث، ولكن لا يمكن إغفال سنوات قبل ذلك زادت عن 18 عامًا من تاريخ هذا الكيان، وهي سنوات تُعتبر مرحلة تأسيس الدولة السعودية، فالدعوة الإصلاحية صارت حركة ضمن ميدان أشمل اسمه الدولة السعودية الخالدة.
ومن جهة أخرى؛ فإن كان اليوم الوطني الذي يتمُّ الاحتفاء به بمناسبة توحيد المملكة العربية السعودية على يد المرحوم الملك عبد العزيز في 23 سبتمبر من كل عام، هو يوم الوفاء لهذا الملك الكبير والعاهل الفذّ الذي أعاد مجد أسلافه وأحيا ذكراهم، فإن يوم التأسيس إنما هو تأكيد على العُمق والتّجذر التاريخي للمملكة العربية السعودية كدولة راسخة البنيان، وهو يوم وفاء وذكرى لذلك الإمام الاستثنائي محمد بن سعود – سليل الأئمة من آل سعود – الذي أقام دولة قوية في محيط استثنائي، شديد التفرّق، واسع التّمزق. ولا عجب فإن الطبع السعودي قد اعتاد وجُبل على وفاء وفخر الأبناء والأحفاد بعطاء الآباء والأجداد.
إن ما بين يوم التأسيس واليوم الوطني – وهما توأمان خرجا من رحمٍ واحدة – مجدٌ تاريخيٌّ شامخٌ يجب إعادة قراءته لاسترجاع هذا الإرث العتيق والتراث العميق، وإعادة تحقيق ذلك المخطوط التاريخي الشيّق، فلا بُدّ لهذا المخطوط أن يرى النور ويُقرأ ما بجوفه من سطور، فربّما استملح الظريف نُكَته، واستنتج اللبيب عِبَره، فالتاريخ السعودي يحمل إرثًا ثقافيًا عظيمًا يحتاج إلى اكتشاف جديد، فليس من العدل أن تُترك أمجاد ثلاثة قرون من العطاء والتضحية والوفاء والبناء حبيسة القراءة التاريخية السطحية التي عفا عليها الزمن، وليس من الإنصاف أن تُهمل وقائع تلك المعجزة التاريخية الإنسانية التي حوّلت بلدة معزولة في أعماق وادي حنيفة إلى دولة عظيمة ترنو إليها الأبصار وتشرئبُّ لها الأعناق، دولة أصبحت رائدة – بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى – للوطن العربي والعالم الإسلامي.
ولكن – والحمد لله دائمًا وأبدًا – فقد أثلجت القيادة الرشيدة – ممثّلة في خادم الحرمين الشريفين ووليّ عهد الأمين – الصدور وأشفت النفوس بإعلان يوم التأسيس الكريم، الذي هو ذكرى وطنية وامتداد أصيل وطبيعي لحرص واهتمام القيادة الحكيمة بالتاريخ الذي فيه بدأت الوحدة السياسية العربية التي أقامها الإمام محمد بن سعود الجدّ الرابع للملك عبد العزيز -رحمهم الله-جميعًا. فمن نِعَم الله تعالى علينا نحن السعوديون – وجميع المخلصين من إخواننا العرب – أن منَّ علينا بحُكّام يُدركون أهمية التاريخ وتوثيقه في حياة الدول وسِيَرها، وما الأمر الملكي الكريم بتحديد يوم التأسيس واتخاذه عيدًا للزّينة والبهجة والاحتفال بتأسيس هذا الوطن الخالد، لهو خيرُ دليل على ما أقول، والله على ذلك شهيد، وهو من وراء القصد، والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات.
————————
باحث في التاريخ الحديث والمعاصر