الحديث عن يوم التأسيس هو حديث اعتـــزاز بالجذور الراســـخة للدولة السعودية، وارتباط مواطنيهـــا الوثيق بقادتها منـــذ عهد الأمير محمد بن ســـعود قبـــل ثلاثة قرون، وإلى اليوم.
ذلك الكيان الذي بدأت نواة كفاحه مع مقدم مانع المريدي الجد الثاني عشر للملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن -يرحمهم الله- جميعًا في عام 850هـ / 1446م إلى نجد، تلك العودة لأرض الأجداد عابرًا بها صحراء الدهناء القاحلة، وهو يسعى لإيجاد مقر للأمن والأمان، في أرض شهدت إهمالًا عدة قرون، قد أدى مع العوامل البيئية؛ للتفكك السياسي والاجتماعي، وافتقار الأمن والاستقرار، وندرة صور الحضارة الإنسانية المتقدمة.
ورغم كل ذلك كانت الصورة الأولى للكفاح نحو كيان يجمع الإنسان، ويكفل له حياة كريمة. فوقع الاختيار على موضع مدينة الدرعية، الاختيار الذي استفاد حينها، وفيما يليها من أزمنة من عدد من العوامل تمثلت في موقعها الاستراتيجي في منتصف الجزيرة العربية، مما أتاح لها أن تكون مرحلة هامة لقوافل الحج والتجارة؛ وخاصة بعد حصول الأمن بطرقها على يدي مانع المريدي وأبنائه من بعده. وكذلك لموقعها على وادي حنيفة، مما أتاح لها موردًا اقتصاديًا هامًا.
وبعد قرون طوال بدأت نواة قيام كيان سياسي بجعل مانع المريدي من “غصيبة” مقرًا للحكم، وبنائه سور حولها. ومن المليبيد مقرًا للزراعة. ومنذ هذه اللحظة شهدت نجد كفاحًا لتأمين طرق الحج والتجارة من قبل مانع وأبنائه من بعده، حتى غدة الدرعية وجهة لكل من يعبر وسط الجزيرة العربية.
وما أن حلَّ عام 1139هـ / 1727م حتى نهض الأمير محمد بن سعود بمرحلة كفاح جديدة، نقل بها الدرعية من مرحلة مدينة الدولة إلى مرحلة الدولة، التي تعارف المؤرخون بتسميتها الدولة السعودية الأولى. نعم كان كفاحًا جديدًا استثنائيًا، فقد كانت الدرعية تُعاني من الضعف والانقسام، ومن نزاع داخلي بين الأمير مقرن بن محمد والأمير زيد بن مرخان، الذي توفي في معركة بين إمارتي الدرعية والعيينة. كما كان للطاعون دور آخر في إثقال كاهل الزمن بانتشاره في تلك الفترة بالجزيرة العربية.
ولكن هنا حضرت الرؤية الثاقبة، والشجاعة المتزنة، المتمثلة في شخص الأمير محمد بن سعود، فوحد الدرعية، وأمن المنطقة، وأحسن التعامل مع الإمارات المجاورة والعشائر المتنقلة. ليس ذلك فحسب، بل أسس لمسار حضاري مغاير لما كان في وسط الجزيرة العربية بعنايته بالعلم والثقافة، كما عزز التواصل الاجتماعي؛ مما أسهم في الوحدة واستتباب الأمن بشكل جلي.
وفي أربعين عامًا أثمر كفاح الأمير محمد بن سعود في صور متعددة، منها: الاستقلال السياسي للدولة وعدم التبعية لأي قوة سياسية، التنظيم السياسي والاقتصادي للدولة، العناية بأفراد المجتمع والعمل على وحدتهم، احتواء البلدات المجاورة وضمها للدولة، نصرة دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، التصدي لكافة المحاولات لإسقاط الدولة السعودية.
إن قصة الكفاح في الدولة السعودية هي قصة مستدامة منذ تأسيسها إلى يومنا الحاضر، فقادتنا الكرام بعون من الله، ثم بمبادرتهم المسؤولة، وبالتفاف السعوديين من حولهم صوروا ملاحم من الكفاح سطرتها صفحات التاريخ ليست المحلية وحدها بل والعالمية، فقد كانت ملامح يحتذى بها لما بها من إخلاص وتفانٍ وإنسانية.
إن كفاح الدولة السعودية لم يكن إلا بدماء وعرق جباه رجالها، تضحيات بذلت بها الأرواح والأجساد منذ بداية التأسيس، فالأمير محمد بن سعود تصدى مع أهل الدرعية لهجمتين من زعيم الأحساء عريعر بن دجين، والإمام عبدالعزيز بن محمد اغتيل في سنة 1218هـ / 1803م وهو في صلاة العصر بمسجد الطريف بالدرعية.
ولم تقتصر التضحيات على المنافسين المحليين، بل كانت تلك الوقفة الصادقة أمام العدوان الخارجي، الذي لم يرق له قيام دولة متمكنة في الجزيرة العربية، فوقف السعوديون بقيادة الإمام عبدالله بن سعود أمام مدافع جيوش إبراهيم بن محمد علي باشا حاكم مصر التابع للدولة العثمانية، الذي صبت نيران مدافعة في أول أمرها مدة عشرة أيام على مدينة الدرعية، ورغم ذلك إلا أن تضحيات السعوديين استماتت لعدة شهور أمام ذلك الحصار المشين.
لم تقف التضحية عند هذا الحد، فعندما نال الدرعية الدمار، وبلغ اليأس الناس وبحثوا عن الصلح مع القوات الغاشمة، كان طلب الصلح من الإمام عبدالله بن سعود، والذي قبل ببنوده، وبها أن يسلم نفسه، في وقت قبل به بشرط، أن يقابل ذلك سلامة الدرعية وأهلها، وهو يعلم أن مصيره لن يكون غير القتل أو السجن حتى الموت. تضحية سطر بها القائد السعودي روحه من أجل وطنه ومواطنيه.
إن تضحيات السعوديين لم تقف عند مجرد الدفاع عن وطنهم، بل في سعيهم لعودة ذلك الوطن العزيز، فرغم إرسال إبراهيم باشا كل من قبض عليه من آل سعود وأبنائهم وأسرهم إلى القاهرة، إلا أن النفس العفيفة للأمير فيصل بن تركي بن عبدالله أبت إلا العودة للدرعية ومساندة والده في استعادة الحكم، وهو من تولى الحكم لفترتين رغم تواجد قوات محمد علي باشا في المدن الكبرى للدولة السعودية، كانت الأولى منها في عام 1250هـ بعد اغتيال والده، والأخرى في عام 1259هـ بعد تمكنه من الفرار من سجنه بمدينة القاهرة.
إن استعادة الوطن، عزة له ولأهله سُطرت على يد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود كذلك، رغم صغر سنه أمام تلك المهام الجسام، فهم من تربوا على العزة الشموخ، ومحبة الوطن وشعبه، الوطن الذي أسس دستوره على القرآن الكريم والسنة النبوية.
الحديث يطول في هذا المقام ولعلي أقف عند أقوال الأفعال، لقادة المملكة العربية السعودية:
أولًا: مقولة جلالة المؤسس الملك عبدالعزيز -يرحمه الله- في عام 1352هـ: “لقد ملكتُ هذه البلاد التي هي تحت سلطتي بالله ثم بالشيمة العربية، وكل فرد من شعبي هو جندي وشرطي وأنا أسير وإياهم كفرد واحد، لا أفضل نفسي عليهم، ولا أتبع في حكمهم غير ما هو صالح لهم حسب ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله”.
ثانيًا: مقولة جلالة الملك سعود بن عبدالعزيز -يرحمه الله-: “تولينا حكم المملكة العربية السعودية .. معتزين بهذا التراث المجيد الذي ورثناه كابرًا عن كابر، والذي أسس على تقوى الله وطاعته، دستوره القرآن الكريم، وعماده سنة محمد-صلى الله عليه وسلم- فعلى أسس نحن ماضون”.
ثالثًا: مقولة سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -يحفظه الله-: “جاءت الدولة السعودية لتعيد الاستقرار لهذه المنطقة على نهج الدولة الإسلامية الأولى وتوحد أغلب أجزائها في دولة واحدة، تقوم على الكتاب والسنة، وليس على أساس إقليمي أو قبلي أو فكر بشري منذ أكثر من مائتين وسبعين سنة”.
0