يأتي اهتمام القيادة الرشيدة بيوم التأسيس اعتزازًا بالجذور الراسخة لهذه الدولة وارتباط مواطنيها الوثيق بقادتها، فإعلان هذا القرار الملكي الذي ينص على تاريخ يوم التأسيس، والذى يوافق 22 فبراير ليكون ذكرى سنوية لتأسيس الدولة السعودية الأولى، والتي تأسست بتولي الإمام محمد بن سعود هذه الدولة، وجعله إجازة رسمية دلالة على اهتمام القيادة الرشيدة بيوم التأسيس، فهذا القرار جاء بناء على نظرة تاريخية عميقة لهذه الدولة السعودية وخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله- وولي عهده الأمير محمد بن سلمان يوليان اهتمامًا بالجوانب التاريخية والمحافظة على الإرث التاريخي للمملكة العربية السعودية وتوثيقه، ومما لا شك فيه أن يوم تأسيس الدولة السعودية هو يوم عظيم يشكل فخرًا واعتزازًا للدولة ومواطنيها.
وحينما نتحدث عن يوم التأسيس وجب علينا أن نبدأ الحديث عن الإمام محمد بن سعود الذي أسس الدولة السعودية ويعود إليه الفضل في بناء هذه الدولة؛ حيث ولد الإمام محمد بن سعود عام 1090 ه/ 1679 م ونشأ وترعرع في “الدرعية” واستفاد من التجربة التي خاضها في شبابه حين عمل إلى جانب والده في ترتيب أوضاع الإمارة، وهو ما أعطاه معرفة تامة بكل أوضاعها، كما شارك في الدفاع عن “الدرعية” عندما غزاها سعدون بن محمد زعيم بني خالد بالأحساء، واستطاعت الصمود ودحر الجيش المعتدي.
وقد عُرف عن الإمام محمد بن سعود صفات متعددة، كالتدين، وحب الخير، والشجاعة، والقدرة على التأثير, وكان حاكمًا حكيمًا وفيًا، تربى في بيت عز وإمارة وتعلم السياسة وطرق التعامل مع الإمارات المجاورة والعشائر المتنقلة، وقد كان له أثر كبير في استتباب الأوضاع في الإمارة قبل توليه الحكم، في الوقت نفسه تحلى الإمام محمد بن سعود برؤية ثاقبة، فقد درس الأوضاع التي كانت تعيشها إمارته والإمارات التي حولها بشكل خاص ووسط الجزيرة العربية بشكل عام، وبدأ منذ توليه الحكم التخطيط للتغير عن النمط السائد خلال تلك الأيام، فأسس لمسار جديد في تاريخ المنطقة تمثل في الوحدة والتعليم، ونشر الثقافة، وتعزيز التواصل بن أفراد المجتمع والحفاظ على الأمن.
تولى الإمام محمد بن سعود الحكم في أوضاع استثنائية في منتصف عام 1139هـ/1727م؛ حيث عانت الدرعية قبيل توليه الحكم ضعف وانقسام لأسباب متعددة، منها النزاع الداخلي على إمارة الدرعية بين عمّه الأمير مقرن بن محمد والأمير زيد بن مرخان، وحملة الدرعية على العينية، ومقتل الأمير زيد بن مرخان، وكذلك انتشار مرض الطاعون في جزيرة العرب خلال تلك الفترة وتسببه في وفاة أعداد كبرة من الناس، ومع كل هذه التحديات استطاع الإمام محمد بن سعود أن يتغلب عليها، وأن يتخطاها ويوّحد الدرعية، وأن يسهم في نشر الاستقرار في منطقة العارض.
وهناك عدة مقومات لتأسيس الدولة السعودية الأولى ومن أبرزها:
– الموقع الاستراتيجي لمدينة الدرعية ووقوعها على ضفاف وادي حنيفة، ويتوسطها طريق التجارة القديم، والذي يأتي من جنوب شبه الجزيرة العربية مروراً بنجران ثم يتجه شمالًا إلى اليمامة ثم الدرعية حيث يتجه إلى الشمال نحو دومة الجندل وإلى الشرق نحو العراق وإلى الغرب نحو الحجاز، ويعد هذا الطريق هو طريق الحاج القادم من فارس والعراق ووسط آسيا، الذين كانوا يواصلون سيرهم عبر الدرعية إلى مكة المكرمة.
– سياسة الإمام محمد بن سعود في تأسيس الدولة وبنائها داخليًا، وتمددها خارجيًا.
– مجتمع الدرعية والذين أصبحوا جزءًا من الدولة السعودية الأولى سواء من التجار أو من طلبة العلم أو الوافدين من طبقات مختلفة.
– علاقة أئمة الدولة بالمجتمع، والتي اتسمت بالكرم والمروءة والشجاعة والوفاء والحلم وسياسة الباب المفتوح؛ حيث إن مجلس الامام كان مفتوحًا لاستقبال المواطنين يدخلون عليه يوميا.
– اهتمامهم بالعلم والتعليم ونشر الثقافة.
– نتيجة لمناصرة الإمام محمد بن سعود الدعوة الإصلاحية وحمايتها مما ساعد في نشر العلم الشرعي، وتهيئة العلماء وطلاب العلم في الدرعية وفي أنحاء الدولة السعودية.
– ثم إن مبادئها ثابتة من حيث أن دستورها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وأسسها تقوم على الحكم الرشيد والإنجازات المستمرة التي تحققها لصالح الدولة والمواطنين.
وهكذا بعد كفاح الإمام محمد بن سعود أربعين عامًا، والذى أثمر في صور متعددة منها الاستقلال السياسي للدولة وعدم التبعية لأي قوة سياسية والتنظيم السياسي والاقتصادي واحتواء المناطق المجاورة والعناية بأفراد المجتمع وتوحيدهم، يخلفه ابنه الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود والذى استمر في حكم إمارة الدرعية 39 عاما حتى عام 1218هـ/ 1803م قضاها في استكمال ما بدأه والده المؤسس وتقوية أواصر مجتمع الدرعية مما ساهم في تدعيم عهد ابنه الإمام سعود حتى لقب بسعود الكبير فالفترة التي قضاها محمد سعود 40 عامًا أضف إليها الفترة التي حكم فيها ابنه عبد العزيز 39 فهذه 79 عاما من الجهود التي بذلت في سبيل بناء وتأسيس الدولة السعودية الأولى فكان عهد سعود والذى حكم 11 سنة إلى عام 1229هـ/1814م ثمرة من ثمرات تأسيس محمد بن سعود، ثم يأتي بعده ابنه الإمام عبد الله والذى استمر 5 سنوات ثم افتدى شعبه بروحه، وقدم نفسه فداء لهم حينما حاصرتهم جنود الدولة العثمانية في الدرعية عام 1233هـ/1818م؛ فقصة التأسيس والبناء والكفاح في الدولة السعودية هي قصة مستدامة فجذورها ممتدة منذ عهد المؤسس محمد بن سعود وأبنائه من بعده.
ثم إن الفترة التي أعقبت سقوط الدرعية وحتى بداية حكم الإمام تركي بن عبد الله سنة 1238ه/1822م تعتبر من الفترات التاريخية التي تميزت بالفتن والحروب الداخلية وسادها الارتباك السياسي والاقتصادي الذى اختل بتوازن قوى المنطقة، ومع أن الدولة السعودية الأولى انهارت من الوجهة والمفهوم السياسي إلا أنها تركت في نجد مقومات الدولة السعودية الثانية إذ ظل المجتمع النجدي يكن الولاء للأسرة السعودية التي تبنت الدفاع عنهم في حملات الدولة العثمانية وضحى بنفسه من أجلهم إمامهم وقائدهم الإمام عبد الله؛ لذلك سارع أهل نجد والمناطق المحيطة بها في الالتفاف حول الإمام تركي بن عبد الله أملا في أن يحفظ لهم ما بقي من الأنفس والأموال، في الوقت الذى كان أفراد الأسرة السعودية مطاردين من الحاميات العثمانية في أي مكان للقبض عليهم وقتلهم، ففي هذه الظروف استطاع الإمام تركي أن يعيد ملك الأسرة السعودية، ويعيد هذه البلاد إلى أهلها وينشر الأمن والاستقرار فيها مما جعله المؤسس الحقيقي للدولة السعودية الثانية، والتي قامت في عام 1240هـ/1824م، واستمرت حتى عام 1309هـ/1891م.
والمتتبع لتاريخ الدولة السعودية في أطوارها الثلاثة يلاحظ الامتداد التاريخي لها، وتقارب الفترات الزمنية بين الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة.
– فالدولة السعودية الأولى بدأت عام ١١٣٩هـ/ 1727م واستمرت إلى ١٢٣٣هـ / 1818م.
– الدولة السعودية الثانية بدأت عام 1240هـ/ 1824م واستمرت إلى 1309هـ / 1891م.
– والدولة السعودية الثالثة قامت بفتح الرياض عام ١٣١٩هـ / ١٩٠٢ م.
وهذه دلالات واضحة على امتداد الإرث التاريخي للدولة السعودية، كما أن مبادئ هذه الدولة في أطوارها الثلاثة ثابتة لم تتغير من حيث إن دستورها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وأسسها تقوم على الحكم الرشيد والإنجازات المستمرة التي تحققها لصالح الدولة والمواطنين.
وعليه فإن تاريخ يوم التأسيس، وجعله مناسبة وطنية أحد مفاخر هذا الوطن، ومما يجعلنا نستحضر العمق التاريخي والإرث الحضاري ومفهوم الدولة العميقة لهذه البلاد الغالية، من حيث ارتباطها بجذورها الراسخة وله انعكاس على الأجيال السعودية من حيث إن قوة الدول في إرثها التاريخي والحضاري والاجتماعي والثقافي والاقتصادي فهذه المقومات قد أسس لها أولًا الإمام محمد بن سعود ثم أكمل بعده أبناؤه وأحفاده مسيرته حتى حظيت الدولة السعودية بما نحن عليه الآن من الأمن والاستقرار والازدهار ورفاهية العيش -حفظ الله- حكومتنا الرشيدة، وهذه البلاد الغالية.
——————
أستاذ مشارك التاريخ الحديث – جامعة الجوف