د. عبدالله العساف

هل تنطفئ مصابيح أوروبا مرة أخرى؟

قال صاحبي: هل ما حدث في أوكرانيا مفاجئ، أم إنه متوقع، هل اسُتدرج بوتين، أم هو من كسب لعبة البوكر بالرغم من اتحاد اللاعبين ضده، ما انعكاسات هذه الأزمة على أوروبا، وأمريكا، والصين، والدول العربية تحديدًا، كيف نستفيد منها، ونخرج رابحين، أين ستقف حدود روسيا؟
بداية علينا أن ننظر ما تعنيه أوكرانيا لأطراف الصراع– الناتو/روسيا- فلكل منهما نظرته الخاصة وأهدافه من ضم الفاتنة الشقراء كييف، فالناتو يراها بمثابة الفقرة الأخيرة في عموده الفقري، وبدونها سيظل قصيرًا، وعاجزًا عن التمتع برؤية الكرملين والساحة الحمراء وما يدور فيهما، بينما ترى موسكو أن جارتها تمثل حجر الزاوية في أمنها، وجزءًا لا يمكن المساومة عليه من مجالها الحيوي.
صعّد الغرب من لهجته تجاه بوتين تحديدًا، واشتغلت آلته الإعلامية بضخ دعاياتها المرتكزة على المبالغة والتهويل منذ عام 2017م بما يذكرنا بممارساتها القريبة السابقة والتي أفضت لاحتلال العراق العربي وتدميره، عبر التشويه الإعلامي المصنوع بعناية فائقة من خلال الزعم بامتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، مما يبرر غزوه وتدميره، وهذه الدعاية تلقاها المواطن الأمريكي، والغربي بقبول حسن، وصفق لقياداته لحماية العالم من الأشرار، الذين قدمهم الإعلام -الحر والمستقل!- للمتلقي بصورة تُثير الفزع لدى الشارع الغربي، وهي الربط بين شخصية صدام، وهتلر، وترك لتلك العقول حرية السباحة في أوهامها ومخاوفها!.
القيصر الروسي رجل استخبارات تربى وتخرج في مدرسة ال (KGB) حتى أصبح رجلها القوي، قرأ المشهد بكامل أبعاده، السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، وتداعياته الجيوسياسية، فقرر القيام بالخطوة الأولى وهي إضافة جمهوريتين إلى العالم: جمهورية دونيتسك الشعبية، وجمهورية لوغانسك الشعبية؛ حتى وإن كان الاعتراف بهما من طرف واحد هو روسيا، -سوريا اعترفت وليس لاعترافها قيمة تذكر- ولأن خطوته الأولى لم تواجه بردة فعل جادة، ولم تخرج عن التصريحات الإعلامية التي تجيدها إدارة بايدن ورفاقه، والتي أصبحت مثيرة للسخرية كما ذكرت هذا بعض الصحف الأمريكية.
اتخذ بوتين الخطوة الثانية، وهي الأهم فاستخدم الخيار العسكري، لتحقيق هدفه الرئيس باستعادة أوكرانيا إلى بيت الطاعة، بعد أن تسربت منه هي وشقيقاتها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. من هذا العمل سعى بوتين لتحقيق جملة من المكاسب، منها إعادة رسم الحدود الدولية، وتقاسم مناطق النفوذ، والعودة بروسيا لمكانتها العالمية، فمن يتحمل نتائج هذا التحرك الروسي، ومن سوف يستفيد منها؟ بايدن بتردده، التي حيرت العالم، وشجعت إيران وروسيا على سحب واشنطن وإجبارها على القبول بالتسوية والموافقة على سياسة الأمر الواقع، أم بوتين الرجل البراغماتي والذي تخلى عن الأيدولوجية ولبس عباءة المنفعة وحقق مبتغاه، أم الصين المترقب والمتوثب بانتظار ما ستفسر عنه الأيام القادمة لتخلع عن وجهها القناع الناعم، وترمي بتعاليم كونفوشيوس في البحر؟ وتعيد تعريف نفسها للعالم كقوة عسكرية سياسية اقتصادية!
لم تنجح سياسة البيت الأبيض في إغراق الكرملين ذي الأسوار العالية في المستنقع الأوكراني، ما حدث هو العكس، فسقطت كييف أو كادت، كما تنبأ بهذه النتيجة قبل عدة سنوات أحد أساتذة العلاقات الدولية في جامعة شيكاغو الدكتور جون ميرشايمر، فالغرب دفع أوكرانيا لتقف وحيدة في وجه الدب الروسي، ثم تخلى عنها!، ولم تفلح واشنطن في إخافة أوروبا من سلاح الغاز الروسي، وباتت أوروبا اليوم أقل حماسة من ذي قبل للقرار الأمريكي، وخصوصًا بعد اتفاقية أوكوس وما نجم عنها من إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا.

ماذا عن العالم العربي؟، قضاياه، واقتصاده، وأمنه العام بمفهومه الواسع، واستثماره لهذه الأزمة، بطريقة تحقق له المكاسب، فالمعركة في بدايتها، وأطراف الصراع تسعى لممارسة نفوذها في المنطقة، والعودة لحالة الاستقطاب، أيام الحرب الباردة، لكن الظروف الجيوسياسية تغيرت، والدروس الأمريكية تعددت، والحالة هذه يجب أن تعود الدول العربية فعليًا لمظلة عدم الانحياز إلا لمصلحتها، وعدم الركون لسياسية المحاور، والعمل وفق مقاربة جديدة، ملفات مقابل ملفات، والحفاظ على مسافة وأحدة من أطراف النزاع، فما حدث في اليمن يلهمنا الدروس من مواقف هذه الدول معنا، ومع قضيتنا العادلة، وسعيها خلف مصالحها، حان وقت المعاملة بالمثل.

قلت لصاحبي:
البيت الأبيض.. لم يعد صالحًا لليوم الأسود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى