المقالات

الإمام محمد بن سعود وتأسيس الدولة السعودية الأولى

عندما يكون الحديث عن شخصية بحجم الإمام محمد بن سعود بن مقرن؛ فنحن أمام شخصية استثنائية، أمام تاريخ بحد ذاته تاريخ زعامة وإرادة وإصرار وصمود تاريخ، غيَّر مجرى الأحداث في وسط الجزيرة العربية.

ولد الإمام في الدرعية عام 1090هـ/ 1679م، تربى في بيت عز وإمارة، وترعرع في كنف والده الذي هيَّأه للعمل السياسي منذ أن كان شابًا؛ إذ كان يعمل إلى جانبه في ترتيب أوضاع الإمارة مما أعطاه معرفة تامة بكل أوضاعها، تعلَّم السياسة وطرق التعامل مع الإمارات المجاورة والعشائر المتنقلة، وقد كان لذلك أثر كبير في استتباب أوضاع الإمارة قبل توليه الحكم، شارك الإمام محمد بن سعود في الدفاع عن الدرعية عندما غزاها بني خالد بالإحساء، واستطاع الصمود ودحر الجيش المعتدي، كما شارك في حملة الدرعية على العيينة التي قتل فيها أمير الدرعية زيد بن مرخان.

عُرف عن الإمام محمد بن سعود الشجاعة وقوة التأثير، كان محبًا للخير والإحسان، وقد أثنى المؤرخون المحليون، وغيرهم على حسن سيرته ووفائه، وحسن معاملته، واشتهاره بذلك دون سائر أمراء البلدان النجدية، كما اتصف الإمام بالتدين مع ميله للخلوة والتأمل، والتدبر والتفكر.

كان الإمام كثير الخيرات والعبادة، مُيسر الرزق لهُ العديد من الأملاك من نخل وزرع، كريمًا سخيًا، قيل في سخائه أن الرجل كان يأتيه من البلدان يطلب منه شيئًا كثيرًا لوفاء دينه؛ فإذا عرف أنه محق أعطاه إياه، حتى إنه في إحدى السنين وفد عليه أحد تجار القصيم، وكان حينها قد أفلس، حيث كان يشتغل ببعض أموال الناس وخسرها، وكان عليه أربعة آلاف ذهبًا، فلما وصل الدرعية أبدى الأمر للإمام محمد بن سعود فأعطاه ذلك المبلغ، فقال بعض أتباعه أتعطي رجلًا لا تعرفه إلا بالاسم هذا المبلغ؟ فقال نعم: الدُنيا إنما جعلت لكرامة بني آدم، فالخيّر منهم ذو الشرف إذا ذلَّ ينبغي إعانته بما يمكن لئلا يزدريه السفلة، فعلى الناس الكرام إبداء الخير لمثله.

وكان من المعهود عن الإمام محمد بن سعود تفقده أحوال بلدته وجماعته وحرصه على تزويج الشباب؛ خاصة من كان منهم لا يملك المال؛ فهو يساعده ويجهزه ويأمره بالزواج، وإذا امتنع أحد أن يعطي ابنته لشخص خطبها، وهو كفؤ سار بنفسه إليه، وعاتبه في ذلك، وربما اشترط على والدها بأن زوجوا هذا فلانة؛ فإن أصابها منه ضرر من كسوة أو متاع أو سكن فأنا ضامن به، وكان يكفل ذلك ويفعل إذا وقع الشرط لا محالة؛ وذلك لحسن سيرته وسريرته ورغبته في التئام جماعته وكثرة خيرهم بالتناسل والتعاضد، كما وصل كرمه (رحمه الله) إلى قوافل الحجاج التي تمر بالدرعية فكان يكرمها 3 أيام قبل أن تكمل طريقها للحجاز، عُرف الإمام أيضًا بسداد الرأي وبُعد النظر والحكمة والروية والرؤية المستقبلية المتأنية في تحقيق الوحدة والاستقرار لبلاده.

لقد نجح الإمام محمد بن سعود خلال فترة تاريخية عصيبة من غرس ركائز الوطن بجهود متواصلة ومضنية في مجتمع لم يألف الوحدة، ولم ينعم بالاستقرار؛ فقد كانت نجد كما يذكر بعض المؤرخين في رعب دائم؛ ففي الحرب يَقتل أبناؤها وُيدمر بٍنَاؤها وَيُحرق نخيلها ويُتلف زرعها، وفي السلّم يُحبس الناس في بلادهم، فما يستطيعون الابتعاد عنها إلا بمغامرة، لأن الطرق مرصودة بالأهوال، وقُطاع الطرق، وطُلاب السلب والنهب، ولم يكن هناك رئيس قاهر!! يردع الظالم وينصر المظلوم، بل كان كل حاكم مسؤول عن بلده فقط!!، ولم تكن نجد تعرف السكينة والأمن والحرية، ويذكر ابن علوان الدمشقي أثناء رحلته للحج ثم ذهابه للأحساء أنه مر بنجد، وذكر بعض البلدات النجدية التي زارها نفي وثرمداء والعيينة، لكن لم يأتِ على ذكر الدرعية كان ذلك عام 1121هـ/1709م، وبعد 18 عامًا تقريبًا من هذه الرحلة تولى الإمام حكم الدرعية؛ فتغير ميزان القوى في نجد، وبرزت الدرعية على خريطة المشهد السياسي والثقافي والاقتصادي وكذلك الاجتماعي؛ إذ استطاع الإمام محمد بن سعود بحكمته وحسن تدبيره أن يحقق تجانسًا فريدًا من نوعه جمع بين مناطق متنافرة وقبائل متناحرة في وحدة سياسية واحدة شاملة تدين بالولاء للقيادة عن طريق لم الشمل ونبذ الفُرقة، فقيادته كانت حريصة على العدل والمساواة، وإحلال الأمن والاستقرار.

في منتصف عام 1139هـ-22فبراير 1727م تولى الإمام محمد بن سعود الحكم في الدرعية وهو ابن 49عامًا تقريبًا، شرع في تأسيس كيان قوي متماسك، تحلى الإمام بشجاعة نادرة ورؤية ثاقبة، فقد درس الأوضاع التي تعيشها إمارته والإمارات المجاورة لها بشكل خاص ووسط الجزيرة العربية بشكل عام، وبدأ منذ توليه الحكم التخطيط للتغيير عن النمط السائد خلال تلك الفترة، فأسس لمسار جديد في تاريخ المنطقة، استطاع الإمام أن يخرج من مفهوم دولة المدينة إلى دولة واسعة، توفي الإمام المؤسس محمد بن سعود عام 1179هـ/1756م، بعد أن قضى 40عامًا في بناء وتأسيس الدولة السعودية الأولى، أسس فيه البناء لمشروع وحدوي فريد من نوعه لم يكن معهودًا في عصره، كما استحدث مفهوم جديد للقيادة مغايرًا تمامًا عن ما كان متعارفًا عليه في البلدات المحيطة به، جعل منه مؤسسًا نفخر بالاحتفاء بإنجازاته التي لازلنا ننعم بأثرها إلى وقتنا الحاضر.

أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر/ جامعة الأمير سطام بن عبد العزيز.

Related Articles

2 Comments

  1. مقال رائع جدااا مقال موجز ومتكامل عن سيرة الامام نعم الرجل ونعم السيره شكراا دكتوره صفيه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button