المقالات

التلاحم وأثره في التأسيس

د. خالد بن صالح الزير

اللهم لك الحمد تفضلت علينا بأئمة عظماء، وقادة حكماء، تلاحموا في أجواء من الصفاء، فأسسوا بلادنا على عقيدة الأنبياء، وتوحيد الحنفاء، وساسوها بشريعة رب الأرض والسماء، فَكَمُل البناء، وتكوَّنت مملكة العز والنماء، ترفرف رايتها الخضراء، حاملة كلمة التوحيد والولاء، وتحقق في ربوعها الرغد والرخاء، فالشكر لله بارئ النَّسم، ومسدي النعم، ودافع النقم.
فما هي قصة تأسيس هذه السعودية العريقة بأصولها وجذورها، الفتية بحضارتها وازدهارها؟
كانت نجد أرضًا صحراوية مستوية ومرتفعة تقع في المنطقة التي تتوسط الجزيرة العربية، ويحدها من الشمال صحراء النفوذ، ومن الجنوب الربع الخالي، ومن الغرب الحجاز، ومن الشرق الأحساء والدهناء، وتخترقها سلسلة جبال العارض، وتضم العديد من المدن والبلدات، والوديان الواحات، ومنها واحة العارض، التي مركزها مدينة الرياض وتضم مدن الدرعية والعيينة، وكانت البلاد النجدية في النصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري تعيش أوضاعًا اقتصادية واجتماعية ودينية وسياسية بالغة السوء؛ لذلك لم تحرص الدولة العثمانية على بسط يدها عليها، بل كانت عبارة عن إمارات صغيرة لا ترتبط ببعضها البعض بروابط سياسية، بل كانت العلاقات فيما بينها هشة وضعيفة، ولا تخلو من جفاء وخلافات وفتور ومنازعات، وكانت تعج ببدع وخرافات، ومظاهر شركية ومخالفات، كبناء القباب على القبور، وزيارتها، والتبرك بها والاستغاثة، وتقديم النذور لها، ولا سيما قبور الأولياء والصالحين، وكانت هذه المظاهر والخزعبلات سببًا من أسباب تخلف الديار النجدية، وتأخرها عن ركب الحضارة في ذلك الزمان، قال لبن غنام صاحب كتاب تاريخ نجد :”كان أكثر المسلمين في مطلع القرن الثاني عشر الهجري قد ارتكسوا في الشرك، وارتدوا إلى الجاهلية، وانطفأ في نفوسهم نور الهدى لغلبة الجهل عليهم، واستعلاء ذوي الأهواء والضلال، فنبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا ما وجدوا عليه آباءهم من الضلالة، وقد ظنوا أن آباءهم أدرى بالحق وأعلم بطريق الصواب”.
وكان يحكم مدينة الدرعية الإمام محمد بن سعود من أسرة آل سعود، فَقَدِم عليه من مدينة العيينة الشيخ محمد التميمي أحد العلماء المجددين، والعلماء الراسخين، والدعاة الصادقين، الذين تلقوا العلم في الحجاز والعراق والأحساء، وكان على منهج الرسول صلى الله عليه وأصحابه، ويدعو الناس للعودة إلى ما كان عليه العهد النبوي، ويشاء الله أن يتعرف عليه وعلى دعوته الإمام محمد بن سعود فتتوثق العلاقة بين الرجلين، وينتج عن ذلك ميثاق يعقد بينهما ينصر فيه الإمام دعوة الشيخ، فقال الإمام للشيخ: أبشر ببلاد خير من بلادك وأبشر بالعز والمنعة فرد عليه الشيخ: وأنا أبشرك بالعز والتمكين، ومن هنا بدأت مرحلة جديدة، ومسيرة عظيمة لتأسيس مملكة العز والفخار، والهدى والرشاد، وقيام الدولة السعودية الأولى التي عاصمتها الدرعية، وتحسنت الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لهذه الدولة، وتمكن الإمام محمد بن سعود من توسيع دولته من خلال فتوحات مباركة في عهده وأيضًا عهد أولاده من بعده حيث ما لبثت مدن العارض والسدير والوشم بل والرياض أن تدخل تحت سيطرة هذه الدولة قبل نهاية القرن الثاني عشر الهجري، ثم بسطت هذه الدولة المباركة يدها على نجد بأكملها بعد أربعين سنة من تأسيسها، ثم ما لبثوا أن أخضعوا الأحساء تحت سيطرتهم، ثم واصل الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود مسيرة والده وجده؛ فأصبحت دولته تضم الحجاز التي دخلت في هذه الدولة عام 1806م، وكان لهذه الفتوحات المباركة ثمارها الطيبة في تصحيح أوضاع البلاد التي ضمها لدولته باجتثاث ما لا يتفق مع الإسلام وتعاليمه، حتى وصلت حدود هذه الدولة إلى أبواب الشام والعراق في سنوات قليلة.
فما هو السر الذي جعل هذه الدولة الحديثة التأسيس تحقق هذا الاتساع الجغرافي الكبير والقوة والاستقرار في ذلك العصر؟
إنَّ المتأمل والمتمعَّن في أسباب هذه المكاسب التي شملت الجوانب الاقتصادية والسياسية والدينية والاجتماعية يمكن حصرها أهمها فيما يلي:
أولًا: النية الصالحة والعزيمة الصادقة لدى الإمام محمد بن سعود، ونسله من بعده لنشر الدعوة الإسلامية الصحيحة، والعقيدة الصافية، والعمل بتعاليم الإسلام في جميع جوانب الحياة لهذه الدولة الفتية (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
ثانيًا: القيادة الحكيمة والسياسة الرشيدة في قيادة الدولة السعودية الأولى منذ تأسيسها، ونشر مبادئ العدل والمساواة بين أفراد الرعية.
ثالثًا: أن تعاليم الإسلام المتسمة بالوسطية والاعتدال ،عقيدة، وعبادة، وتعاملًا تمثلتها رعية الإمام، وعاشتها واقعًا حيًا بينهم، فتكون جيلًا من الرعية يتمثل طاعة الله -عز وجل- وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وطاعة ولي الأمر، وأصبحوا عونًا للإمام في فتوحاته، وسندًا في تأسيس دولته (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).
وهذا المنهج السياسي الذي سار عليه الإمام محمد بن سعود وأبناؤه من بعده هو منهج مستمد من المنهج الذي تكونت به الدولة الإسلامية الأولى على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته حتى أصبح أبناء ذلك الجيل مصاحف تمشي على الأرض نورًا وهدايةً.
وها نحن في هذا العصر الزاهر عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان- يحفظهما اهأر- نعيش ثمار نهج الدولة السعودية الأولى دولة التأسيس والبناء آمنًا ورخاءً واستقرارًا، ووسطية فالحمد لله أولا وآخرًا.
——————————-
أستاذ الفقه وأصوله وعميد كلية الشريعة والأنظمة بجامعة الطائف سابقًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com