المقالات

الدرعية منطلق دولة وحضارة

د. عبداللطيف بن دهيش

على ضفتي وادي العرض الذي يخترق سلسلة جبال العارض، وتُعرف هذه الجبال في الوقت الحاضر باسم جبل طويق لتطويقه جزءًا كبيرًا من بلاد نجد، ويعد حصنًا طبيعيًا للمناطق المُطلة على وادي حنيفة، والذي تقع مدينة الدرعية على ضفافه، ويعتبر من الأودية الواسعة الخصبة الصالحة للزراعة والسكن لوفرة مياهها وعذوبتها، ويمتد من الغرب إلى الشرق.

وقد نزلت قبيلة عنزة في تلك البلاد وعمروها، وانتشر أبناؤها في عموم المنطقة، واستقبلت المنطقة على مر العصور الكثير من القبائل وانتشر العمران، واهتم سكان المدن بالزراعة وتشييد المساكن فانتشرت المزارع، وظهرت صناعات خفيفة وأسواق تجارية التي تتطلبها الحياة، وحدث تبادل تجاري بين سكان المدن وسكان البادية في أسواق أطلق عليها اسم اليوم الذي تعقد فيه. مثل سوق الخميس فيعرض فيه كل فريق إنتاجه من منتجات زراعية كالحبوب والتمور أو منتجات حيوانية مثل منتجات الألبان المتنوعة، ومغزولات السجاد، وبيوت الشعر والماشية ونحوها.
ويذكر عدد من المؤرخين مثل: الفاخري وابن غنام وابن بشر وابن عيسى، وغيرهم أن هذه الأرض المباركة شهدت في عهد مانع بن ربيعة المريدي وابنه ربيعة مع ابن عمه علي بن درع قيام وحدة سياسية ونمو حضاري؛ وذلك في عام 850هـ / الموافق : 1446م واستمر الأمراء من هذه الأسرة في حكم البلاد حتى آل الأمر للإمام محمد بن سعود في عام 1139هـ الموافق 1727م. والذي أعلن فيه قيام الدولة السعودية وعاصمتها الدرعية؛ فأقام العدل ونشر الأمن والاستقرار بين سكانها، وكان حاكمًا متواضعًا يحب أعمال الخير وكثير الصدقات؛ فذاع صيته في بلاد نجد فاستقبلت الدرعية الوفود المؤيدة والمناصرة له فاتسع حكمه وانتشر العمران، واهتم السكان بالزراعة والصناعات الخفيفة وتوافد على الدرعية عدد من العلماء وطلاب العلم، وحدث تحالف ومصاهرة بين سكان الدرعية وما جاورها من سكان الحاضرة والبادية، ونشطت الحياة العلمية والاقتصادية بكل أنواعها. وقد ساهم ذلك بترسيخ اللحمة الوطنية العربية والعمق التاريخي، والذي برزت معه قيام دولة عربية موحدة هي الدولة السعودية الأولى، واستمرت في القيام بدورها القيادي في المنطقة بكل قوة واعتدال، وجاء من بعد الإمام محمد بن سعود ابنه الإمام عبد العزيز والذي اتسع حكمه حتى شمل معظم أرجاء شبه الجزيرة العربية، وبلغت الدولة أوج نموها في عهد ابنه الإمام سعود بن عبد العزيز الذي اهتم بالحرمين الشريفين وكسوة الكعبة المشرفة بالقز والقيلان الفاخر في كل عام، وكان يحج طوال فترة حكمه، ويبذل العطايا والصدقات لسكان الحرمين الشريفين وما جاورهما.
وكان من سياسة الدولة السعودية رفع المستوى العلمي بين السكان ومحاربة الجهل في داخل الدرعية وخارجها وانتشرت حلقات العلم في مساجد الدولة، واشتهر جامعا الطريف والبجيري بنشاط علمي واسع حتى أصبحا من الجوامع التي تشبه الكليات حيث يدرس بها مختلف العلوم، وكان الإمام عبد العزيز وابنه سعود يقومان بتشجيع الطلاب على طلب العلم، ويعملان على بناء المدارس وكانا يقابلان الطلاب وجهًا لوجه، ويشجعونهم على الدراسة وحب التنافس في طلب المعارف والعلوم المتنوعة؛ وبذلك أصبحت مدينة الدرعية مركزًا يشع منه العلم، ويجتمع فيه العلماء والشعراء والكتاب ومحطة التقاء لطرق التجارة والحج من معظم أنحاء شبه الجزيرة العربية والبلاد العربية والإسلامية.
وكانت الدولة السعودية ترسل الوفود لشرح سياستها لكثير من البلدان داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها حتى أصبح للدرعية عاصمة الدولة السعودية شأنًا عظيمًا في كثير من المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية والعمرانية والاجتماعية، وتنوعت التركيبة السكانية تبعًا لاتساع رقعة الدولة الجغرافية، وكان للدولة السعودية علاقات قوية مع جيرانها في داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها؛ فازداد عدد سكانها وقدر أحد المؤرخين عدد سكان الدرعية فقط بأكثر من ثلاثين ألف وعدد منازلها يزيد عن ألفين وخمسمائة منزل، وتنوعت فئات السكان فيها فمنهم رجال الدولة والعلماء وطلابهم والتجار وأعداد كبيرة من الفلاحين والحرفيين وأبناء البادية.
وقد نعمت الدرعية بالثراء من موارد الزراعة والتجارة والزكاة بأنواعها، وانعكس هذا على ازدهارها وتوفير احتياجاتها في كثير من متطلبات الحياة الكريمة، وانتعشت عمليات التصدير والاستيراد من مناطق شبه الجزيرة العربية مثل: عمان والحجاز وشبه القارة الهندية وغيرها مثل: القهوة واللبان والسكر والارز والتوابل وأنواع الأقمشة والسلاح والذخيرة.
وكانت قصور ومنازل الدرعية في غاية الجمال والتصميم حسب متطلبات ذلك العصر حتى احتوى أحدها على حمام سباحة مثل الموجود في البلدان المجاورة كالحجاز وسوريا.
ويتكون العديد من منازلها على عدة طوابق تصل إلى ثلاثة طوابق تتوفر بها المرافق، وكان يحيط بها سور منيع عليه أبراج وأبواب تفتح بالصباح، وتغلق ليلًا مثلها مثل بقية المدن والقرى في بلاد نجد استجابة لدواعي أمنية حسب ما تتطلبه الحياة في ذلك العصر.
وتنوعت أطباق الطعام في الدرعية؛ نظرًا لاتساع مساحة الدولة وتنوع أنواع الأطعمة في كل منطقة؛ فنجد أطعمة من الدرعية وما حولها والقصيم وحائل والحجاز والجنوب والشمال، ويقدم الطعام في ضيافة الإمام لأكثر من ثلاثمائة شخص يوميًا، ومثل هذه العدد للمحتاجين.
ويتكون جيش الدرعية من أكثر من ثلاثمائة فارس وبضعة آلاف من الجنود، وعدد كبير من الخيول العربية الأصيلة والإبل، ولها إسطبلات خاصة في أطراف مدينة الدرعية لرعايتها والاهتمام بها.
ويتوسط مدينة الدرعية عاصمة الدولة السعودية قصر الإمارة مقر سكن الإمام والإدارات التابعة له في حي الطريف حولها الجامع الكبير الذي تقام فيه الصلوات؛ فيحضرها الإمام محمد بن سعود، ومن بعده أبناؤه الإمام عبد العزيز وابنه الإمام سعود بجانب المساجد الأخرى في المدينة.
وكتب المسيو باراندييه السفير الفرنسي في إسطنبول إلى وزير خارجية بلاده يصف أحوال الدرعية في عهد الإمام سعود ما نصه “أصبح للمرء أن يتوقع رؤية مملكة عربية جديدة قادرة على أن تظفر بمضي الوقت بدرجة تضعها في مستوى واحد من السلطات الأخرى في آسيا”.
كما أشار المؤرخ البريطاني الرسمي (لويمر) بأن اتجاه حكومة الدرعية في نجد في جوهره اتجاه تمدن وحضارة، وكان من بين أهدافها الرئيسة التي وضع حكامها نصب أعينهم إقامة الأمن والنظام لإخماد الحروب المحلية والمنازعات الشخصية.
ويصف الرحالة بوركهارت حالة الأمن في الدولة السعودية “أن التاجر يسافر بمفرده في صحراء الجزيرة العربية وهو في أمان تام وينام البدوى من دون خوف أن تساق مواشيهم من قبل سلاب الليل”.
وبذلك نرى أن الدرعية أصبحت منطلقًا سياسيًا وحضاريًا للدولة السعودية، تُدار منها الشؤون السياسية والتجارية والعسكرية والمركز الثقافي الأول في المنطقة، وكان أئمة الدرعية يقومون بتعيين أمراء المناطق والمدن وشيوخ القبائل وكذلك القضاة والموظفين في مختلف أجهزة الدولة وإقامة المحاكم والإدارات لرعاية شؤون مواطنيها، والاهتمام بالأمن والاستقرار في مختلف مناطق الدوله. واستمرت الدرعية تؤدي دورها السياسي والاقتصادي والثقافي بالرغم من كل المنغصات وتكالب الأعداء عليها لكن قادتها وقفوا بكل قوة وحزم مما ساهم على استقرارها والحفاظ على مكتسباتها ومازالت معالم وجودها قوية راسخة حتى يومنا الحاضر بتوفيق من الله نصرة وحكمة قادتها السياسية والإدارية في جميع المجالات. وقد ظهر ذلك واضحًا في عهد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود؛ حيث أقام دولة راسخة هي المملكة العربية السعودية راسخة البناء واضحة المعالم تعمل لخير العباد والبلاد رحمه الله. وجاء من بعده أبناؤه البررة، وساروا بالمملكة العربية السعودية خير قيام في جميع مجالات الحياة الحديثة، وأصبحت في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- عضوًا فاعلًا في مجموعة العشرين، ولها حضور متميز في المحافل الدولية، وهكذا أصبحت الدرعية منطلق دولة وحضارة حافلة بالإنجازات العظيمة لثلاثة قرون مضت.

—————-

أستاذ التاريخ والحضارة بجامعة أم القرى سابقًا

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button