يعود تاريخ استخدام الدعاية (البروباغاندا) إلى الحضارات القديمة، ورغم اختلاف الأدوات والاستراتيجيات المستخدمة، ولكن دومًا يظل هدف الدعاية التحكم بالعقول والمشاعر في وقت الأزمات، ولعبت التكنولوجيا دورًا في تغيير أنماط الدعاية وحجم تأثيرها. بدءًا من اختراع الطابعة قبل عدة قرون وانتهاءً بالميتافيرس اليوم، ولطالما كانت القنوات والإذاعات الموجهة والمنشورات الدعائية خلف خطوط الأعداء من أبرز تكتيكات الحرب النفسية المستخدمة في الحرب العالمية الثانية، والمشهد الإعلامي يزخر اليوم بعدد لا محدود من شركات التقنية الغربية على وجه الخصوص.
ومع انطلاق شرارة الأزمة في أوكرانيا تم بث تفاصيلها في تطبيقات ومواقع الاتصال الاجتماعي من قبل أفراد عاديين وغير عاديين على الأرض، وبلحظات امتلأت صفحات الإعلام الاجتماعي بمحتوى واقعي لما يحدث، وقد يفسر بعض الخبراء والممارسين الإعلاميين أن ما حدث يعد أمرًا طبيعيًا؛ نظرًا لتوغل وسائل التواصل الاجتماعي في شكل وتركيبة صناعة الإعلام المعاصرة. والرد على هذا الافتراض هو الجزم بعدم دقته نظرًا لأن فلسفة الإعلام الاجتماعي بدأت من منظور شبكي اجتماعي، ولم تكن ضمن الأولويات لهذه الشبكات أي من المواضيع السياسية والعسكرية أو استخدام الشبكات كوسيلة ضغط، وفي عام ٢٠١١م برز الوجه السياسي-الدعائي لهذه التطبيقات فيما كان يعرف بالربيع العربي. ولكن ماذا اختلف في المعركة الدعائية القائمة بين الجارين روسيا وأوكرانيا؟
خلال الأزمات الماضية من الحروب العالمية وحتى عام ٢٠٠٠م، كان مصدر المعلومة والدعاية محدودًا في العمل المؤسساتي، وبالتالي المحتوى كان يخرج من معمل عملياتي معلوماتي مرتبطًا بالعديد من القنوات الاتصالية داخل الإطار العام، وهذه الصبغة التخطيطية لصناعة الدعاية قديمًا أعطتها القدرة على تطوير العمل الدعائي من خلال القياس والتقويم. ونظريًا صنفت الأعمال الدعائية بأنها متأثره بنظرية حارس البوابة ونظرية وضع الأجندة، واستخدام استراتيجية حملات المعلومات العامة من خلال الاتصال الرأسي.
ومن الأمثلة للدعاية وفق الإطار المؤسساتي استخدام الجيش الأمريكي للمراسلين الإعلاميين المرافقين له في العمليات في حرب فيتنام، وفي حرب الخليج الثانية أضاف الجيش الأمريكي المؤتمرات الصحفية والتغطية الإعلامية المباشرة بالقنوات الفضائية، وأطلق على هذه الاستراتيجية Press Pools ونفس الاستراتيجية استخدمت في عام ٢٠٠٣. وفي أزمات أخرى تم استخدام الإعلام الموجه المرئي والمسموع والمطبوع ضمن إطار مؤسساتي مثل الغزو السوفيتي لأفغانستان، أزمة الشرق الأوسط في ٧٣، الحرب العراقية- الإيرانية وحروب البلقان في التسعينيات.
في مطلع الألفية انتشر استخدام الإنترنت في العديد من الدول، وهذا ساعد في تغيير تركيبة صناعة الإعلام، ومع توسع دائرة الابتكار انضمت لمساحة التأثير الهواتف الذكية، وفي ضوء ذلك أصبحت وسائل الاتصال والإعلام أكثر تفاعلية، وتحررت من القيود، وتكونت مفاهيم نظرية جديدة محورها المستخدم والسياق المحيط (context)، وتصدر المشهد الإعلامي المحتوى الناتج من المستخدم user-generated content.
وفي هذه الظروف الإعلامية-التقنية المعقدة ومرور وسائل الإعلام بالعديد من المتغيرات، وآخرها جائحة كورونا، وظهور تقنيات الواقع المعزز، اندلعت معركة دعائية في وسط شرق أوروبا.
في صباح ٢٤ فبراير ٢٠٢٢، روسيا الاتحادية بدأت عملية عسكرية وصفت بالضرورية بالداخل الأوكراني، ولمدة أسبوع حاولت جاهدًا رصد الدعاية الصادرة من الطرفين لمحاولة استشراف شكل ومضمون الحملات الدعائية في الأزمة.
في البداية سبق العمليات العسكرية والمعركة الدعائية تصعيد سياسي وشحن إعلامي كبير من خلال تعامل وسائل الإعلام الدولية مع أخبار نقل المعدات والقطاعات العسكرية الروسية على الحدود بين البلدين، وزاد الشحن من خلال عملية التدوير الإعلامي للمحتوى بوسائل الاتصال الاجتماعي، وفي ضوء ذلك نستطيع القول: إن الدعاية الاستباقية الروسية أوجدت حالةً من الترقب في وسائل الإعلام لموعد العملية العسكرية، ويعتبر ما حدث جزءًا من مهام الدعاية للتهيئة النفسية للعملية العسكرية.
ومع انطلاق أول رصاصة أصبحت الأزمة حديث معظم منصات التواصل الاجتماعي وأغلب القنوات والمواقع الإخبارية، وفي علم الدعاية والحرب النفسية تعتبر الرصاصة الأولى بمثابة قص شريط الافتتاح لمسلسل طويل من الأعمال الدعائية.
المبادرة الدعائية في أول يومين كانت في صالح الأجهزة الإعلامية الروسية، والتي نقلت برسائلها وجهة النظر الروسية الرسمية، والتي تتضمن مخاوف أمنية وطنية وأزمة عدم ثقة في الطرف الآخر، وتداولت معظم وسائل الإعلام الدولية وجهة النظر تلك. وعلى الطرف الآخر ارتفع مستوى الرسائل الاتصالية في الإعلام الاجتماعي ومعظمها تدعم موقفها ببث حي من أرض المعركة وبوسائط مصورة وآراء وتفاعلات ومشاعر عكس الدعاية الروسية الرسمية، وبالتالي كان محتوى المستخدمين أقرب إلى قلوب ومشاعر المستخدمين، والواضح أن المبادرة الدعائية الروسية لم تضع كاميرا الهاتف الذكي في الحسبان، وماذا يمكن أن تحقق هذه الكاميرا من ضرر؟
نستذكر أنه في عصر المعلومات وبنهاية عام ٢٠٢١ عدد الهواتف الذكية الفعالة بالعالم ٦.٢٥ مليار جهاز، ويستخدم تطبيق فيسبوك ١.٩ مليار و١.٨ مليار متصفح لليوتيوب وأكثر من ٣٠٠ مليون مستخدم لسناب شات ومثلها لإنستقرام. في هذه الظروف كان لزامًا على المخططين للدعاية الروسية الأخذ في الاعتبار ردة فعل جمهور وسائل التواصل الاجتماعي سواءً بالتفاعل مع الدعاية الروسية أو التمترس ضدها.
والملاحظ للمعركة الدعائية يستنتج أن المساحة الرئيسية للمعركة هي تطبيقات وسائل الاتصال الاجتماعي ومواقع الإنترنت، وساعدت هذه المنصات أوكرانيا في امتصاص الصدمة الدعائية وإزالة الضبابية عن الدعاية المضادة والتي استخدمت أسلوب الاستقطاب، وكسب التعاطف وكونت خطًا إعلاميًا متجانسًا في الموقف ومختلف في المضمون والخلفية. ومهم التنويه إلى استخدام الطرفين للتضليل المعلوماتي واستمالات الخوف والعاطفة، وجميعها تكتيكات خطيرة ذات أبعاد نفسية تؤثر في تحديد الاتجاه والرأي لدى المتلقي.
في الختام على الإعلاميين والخبراء ممارسة دورهم الإعلامي بشكل مسؤول، والبحث عن المصداقية في المعلومة والطرح بشكل موضوعي من خلال استخدام منصات التحقق من مصادر المعلومات خصوصًا أن الأزمات تخلق بيئة خصبة لانتشار لشائعات والأخبار الزائفة، وتعد المعركة الدعائية الروسية-الأوكرانية فرصة للباحثين والممارسين والخبراء للاستفادة من التجارب ودراستها عن قُرب مع البُعد عن الاستقطاب والتجاذب الحاصل في البيئة الإعلامية، وعدم الانضمام للمعركة الدعائية لا إراديًا وببساطة من خلال الإعلام التفاعلي، وللحديث بقية عن رصد الصراع الدعائي في هذه الأزمة.
———————-
@DrBandaraljaid