الحرب لفظة كريهة ومشؤومة، تثير الفزع والخوف في النفوس السوية، لأنها عمل ضد الفطرة، فالكائنات كلها تتحاشى الصدام والعراك، ولا تلجأ إليه إلا عند الضرورة القصوى كأن تكون هي الوسيلة للبقاء، ونادراً ما تجد كائنات من جنس واحد تعلن الحرب على بعضها بشكل جماعي. ولقد كان العرب في جاهليتهم من أكثر الناس تعرضا للحروب، وربما كان ذلك من أسباب تسمية تلك الحقبة بالجاهلية، ويمكن التماس بعض أسباب الحروب في تلك الفترة، ومن أهمها الطبيعة القاسية التي يعيشون فيها، ولقلة الموارد، وشح البيئة على ساكنيها حيث لا أنهار ولا بحيرات ولا أراضي زراعية فسيحة، وفاقم ذلك كله قلة في الأمطار، كل هذا جعل الحروب صراعاً من أجل البقاء، وهذا الصراع يشتد ويقوى في ظل غياب التشريعات التي تقرب بين الناس وتجعل عمليات التعاون والتكافل والتكاتف تحل محل عمليات الصراع والمنافسة والنزاع، وصحب ذلك كله غياب سلطة فاعلة تطبق النظام، وتردع الباغي، وتقتص للمظلوم من الظالم كما أصبح الحال بعد نشأة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وتتابع نزول الوحي الذي ينظم علاقات الناس ببعضهم، ويغرس في النفوس القيم الرفيعة من إخاء وتكافل وتعاون، وتحريم للقتل والسلب والنهب، وأخذ أموال الناس بالباطل، وقد دعا القرآن الكريم إلى مقاتلة الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله.
ورغم غياب الدولة في الجاهلية وكثرة الحروب فإن الساحة لم تخل من صوت للعقل يحذر من دواهي الحروب وويلاتها، ومن دمارها وخرابها، وبرز في هذا الجانب أمير الشعراء في العصر الجاهلي، شاعر الحكمة زهير بن أبي سلمى حيث صور في معلقته ما تجره الحروب من ويلات ودمار، وحذر منها، وحاول أن يذكر الناس بما يدركونه من سلبياتها وآلامها، فهو يقول:
وما الحربُ إلا ما علمتهم وذقتمُ
وما هو عنها بالحديث المرجَّم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
وتضرَ إذا ضرَّيتموها فتضرم
فتعركمُ عركَ الرحى بثفالها
فتُلفِحْ كِشافاً ثم تحمل فتئم
فتنتج لكم غلمانَ أشأمَ كلهم
كأحمر عادٍ ثم ترضع فتفطم
فتغلل لكم ما لا تتغل لأهلها
قرىً بالعراقِ من قفيزٍ ودرهم
فزهير يقدم صوراً كريهة وقبيحة للحرب قائمة على التجربة والمعايشة وليست رجماً بالغيب، فهي مذمومة ومسعورة، وتعرك الناس وتطحنهم كما تحطن الرحى الحبوب، ومن نتائجها الكارثية أنها تولد الضغائن والأحقاد، وتؤدي إلى اليتم والتشتت، فهي تغل من المصائب والكوارث والنكبات أكثر مما تغل قرى العراق من خيرات. هذه الصور لآلام الحرب وويلاتها قدمها زهير في وقت كانت الحرب تمارس بالسيف والرمح والنبل و(المشعاب)، وكان ضررها لا يتعدى المتحاربين في الغالب، كيف بزهير بن أبي سلمى لو أدرك شيئا من أسلحة الدمار الشامل في حياتنا المعاصرة من قنابل وصواريخ وألغام ومدافع وأسلحة كيماوية وجرثومية ونووية إلى آخر تلك القائمة الطويلة من الأسلحة الحديثة التي تذيب الحجر، وتقتل الدواب والبشر، وتحرق الشجر، وتفني الحياة، ونظرة عاجلة لنتائج الحروب في القرن العشرين تبين الفرق بين الحروب القديمة والحديثة، فقد قتل في حروب القرن العشرين أكثر من الذين قتلوا في الحروب كلها على مدار التاريخ، ويكفي أن نذكر أن ضحايا الحربين العالميتين يقدرون بحوالي ستين مليون نسمة، عشرون مليونا منهم كانوا من الروس (الاتحاد السوفيتي سابقا)، وهناك حروب مات فيها الملايين مثل حرب فيتنام، وحرب تحرير الجزائر، هذا غير الحروب التي مات فيها الآلاف ومئات الآلاف في الشرق وفي الغرب.
وخلاصة القول أن الحرب منافية للعقل والفطرة، ولا أعتقد أن هناك حكيم وعاقل يسعى لإشعالها، وفي تقديري أن معظم من كان سببا في قدح زناد أي حرب وإشعالها أنه يعاني من نقص في مداركه وفي قدراته العقلية، يستثنى من ذلك من فرضت عليه الحرب ولا بد له من خوض غمارها دفاعا عن بلاده واستقلالها وحقوقها وحريتها، ومع ما أحرزت البشرية من تطور في شتى المجالات وما قام من مؤسسات دولية لفض المنازعات ومكافحة الظلم والغطرسة، فإن آلة الحرب لا زالت تدور، ومن يشعلها قد لا يصطلي بنارها، وإنما يموت فيها الأبرياء والضعفاء والعاجزون، ويتم فيها تدمير الممتلكات والآثار التاريخية وجهود البشر في البناء لعشرات السنين، والجميع فيها خاسر ونادم.
نتمنى أن تكون العقود القادمة أكثر سلما ورخاء وعدلا وأمناً لجميع البشر على هذه الأرض، وأن يتم تطوير واختراع وسائل لنفض المنازعات مثل ما تم من تطوير واختراع في الوسائل التي تخدم الحياة في جوانبها المختلفة، والله الموفق.