ما يميز السعودية أنها دولة راسخة لا تصرح بكل شيء، وحتى إعلامها لا تسمح له أن يتحدث ضد حلفائها، خصوصًا إذا كانت مثل تلك التصريحات وبشكل خاص إذا كانت ضد رؤساء دول صديقة، وما نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” نقلت أن ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان وولي عهد أبو ظبي، الشيخ محمد بن زايد رفضا مكالمات من الرئيس الأمريكي، جو بايدن حول ملف الأزمة الأوكرانية؛ حيث كانت الولايات المتحدة تعمل على بناء دعم دولي لأوكرانيا واحتواء أسعار النفط.
السعودية ودولة الإمارات يريان أن الحرب بين روسيا وأوكرانيا لا ناقة لهم فيها ولا جمل، حيث اعتبرت الصين أن الناتو مسؤول عن انفجار التوتر بين روسيا وأوكرانيا، ولم تتطرق الصين إلى ذكر الولايات المتحدة في تصريحها لكن استبدلتها بالناتو، حتى لا تدخل في مواجهة دبلوماسية بينها وبين الولايات المتحدة، وسبق أن صرح أحد المسؤولين أن الولايات المتحدة هي من صبت الزيت على النار في الأزمة الروسية الأوكرانية.
هناك حقائق جيوسياسية في الحرب على أوكرانيا، لابد من معرفتها قبل الاصطفاف في مثل تلك الحرب، ومن يتتبع الحزب اليساري المتطرف في أمريكا والمسؤول عن حرمان الرئيس دونالد ترامب من فترة رئاسية ثانية بسبب أن سياسته كانت ترفض معاداة روسيا، فهو أتى ببايدن للرئاسة لتحقيق عدد من الأهداف، منها إعادة أوروبا إلى الفلك الأمريكي بعد محاولات أوروبية بقيادة فرنسا التوجه نحو تشكيل قوة عسكرية أوربية موحدة تحمي نفسها من أي عدوان روسي غير قادرة أمريكا على حمايتها، والهدف الآخر معاقبة أوروبا التي وقعت اتفاقيات استثمارية طويلة الأجل مع الصين.
حيث بدأت المفاوضات بين أوروبا والصين منذ يناير 2014 وخلال عام 2020 في ديسمبر عقدت عشر جولات للمفاوضات سُميت بالاتفاقية التاريخية أزعجت أمريكا ينقل العلاقات لأفق أوسع وأرحب خاصة أنها تحل محل نحو 20 اتفاقًا ثنائيًا بين الصين والاتحاد الأوروبي في مجال الاستثمار، ويرتبط جزء من تطور حركة التجارة الدولية بين الطرفين بالتطور الهائل في خطوط النقل بالسكك الحديدية بين الجانبين، في إطار ما يطلق عليه الجسر البري الأوراسي، كجزء من مبادرة الحزام والطريق التي طرحتها الصين عام 2013 تربط القطارات حاليًا بين أكثر من ستين مدينة صينية وما يزيد على خمسين مدينة أوروبية، لم تكن التجارة بين الصين وروسيا التي لا تزيد عن 150 مليار دولار، بينما مع أوروبا تبلغ نحو 850 مليار دولار، ومن المحتمل أن تتضاعف تلك الأرقام في المستقبل القريب نتيجة هذا التقارب.
لذلك عندما أتى بايدن إلى البيت الأبيض وصف الرئيس بوتين بأنه قاتل، ورفض التحدث مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وتعهد بأن يجعل السعودية دولة معزولة ومنع تصدير السلاح إليها بسبب حرب اليمن فقط من أجل إرضاء إيران بعدما أزاح الحوثيين من قائمة الإرهاب، من أجل أن تحل محل روسيا في تصدير الغاز إلى أوروبا لكسر الاحتكار الروسي، بالطبع الضغط الدبلوماسي الأمريكي على السعودية جعلها تبحث عن بدائل استراتيجية، وستكون أمريكا الخاسر الأكبر.
يبدو أن بايدن استهان ببوتين الذي أتى بعقلية إيفان الرهيب، وبطرس الأكبر، وكاترين العظمى التي حمت روسيا من 1762 – 1796 التي كانت تنوي إخضاع أوروبا، وأن تضرب عنجهية الصين، وتفتح باب التجارة واسعًا مع الهند، وترى أن الطريقة الوحيدة للحفاظ على الأمن القومي الروسي المتحقق في التوسع، تتوافق نظرتها مع نظرية قلب الأرض لماكندر قبل أن يتبنى نظريته في نهاية القرن التاسع عشر الذي اعتبر روسيا قلب العالم، وهو عالم بريطانيا أراد أن يقدم نصائحه لبريطانيا القوة البحرية آنذاك في كيفية كبح جماح القوة البرية الروسية، وأن هناك نقطة ضعف إذا استثمرها الغرب يمكن مواجهة الدب الروسي وتحجيمه، تكمن نقطة الضعف هذه في شرق أوروبا التي يجب السيطرة عليها قبل أن تسيطر القوة البرية الروسية عليها ثم تسيطر على العالم بعدما تصل إلى الخليج العربي نقطة الاتصال الاستراتيجية بين الشرق والغرب، ولن تستطيع القوة البحرية البريطانية عندها مواجهة هذه القوة البرية الروسية بعد سيطرتها على الخليج العربي التي تعد بمثابة سيطرة على العالم على العالم.
يبدو أن الغرب لا يزال يؤمن بهذه النظرية، رغم قدمها، ورغم التقدم التكنولوجي والنووي، ولكنه يحاول محاصرة روسيا من خلال السيطرة على نقطة الضعف هذه وهي أوروبا الشرقية، رغم أن هناك اتفاقًا بين الغرب وروسيا عندما انهار الاتحاد السوفيتي عام 1991 في أن الناتو لن يتوسع في الشرق، لكن ذلك لم يحدث، بل حدث العكس.
اعتقدت أمريكا أن السعودية دولة على غرارها تنقض وعودها ومعاهداتها، لو كان كذلك لكانت فرصة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أن يتواصل مع رئيس أمريكا، لكن السعودية قدمت مبادئها على تحقيق مثل هذا الاتصال، خصوصًا وأن السعودية مركز الوحي، وقائد إسلامي، فهي بمثابة النموذج لبقية الدول في أنحاء العالم في الالتزام بمبادئها وتعهداتها.
وهناك مسلمات جيوسياسية تجاه روسيا لن تتنازل عنها، فهي تتجه نحو تأمين جنوبها في القوقاز، ومثال على ذلك دموية حرب الشيشان في 1999، والتدخل مؤخرًا في النزاع بين أذربيجان وأرمينيا حول ناغورنو قرة باغ، وتدخلها في جورجيا عام 2008 واعترافها بأبخازيا وأوسيتا الجنوبية الانفصاليتين، والحفاظ على مناطق عازلة بينها وبين أوروبا الغربية، وهي المناطق الرخوة التي تحدثت عنها نظرية ماكندر.
لذلك تحاول روسيا حاليًا استرداد المثلث التاريخي، روسيا الكبرى وروسيا الصغرى (أوكرانيا) وروسيا البيضاء (بيلاروسيا) فإذا تعذّر ذلك فإن الدب جاهز للانقضاض عندما يتم العبث بالجغرافيا السياسية الخاصة به مهما كانت التكاليف.
وبالفعل فشلت أمريكا في الشيشان عندما دعمت الجماعات الانفصالية الإسلامية، وفي جورجيا فشلت أيضًا عام 2008، وكذلك حاولت أمريكا التي تستخدم دائمًا الثورات الملونة في المنطقة العربية، فبعدما نجحت في البلاد العربية عام 2011 حاولت استخدامها في أوكرانيا عام 2014 ونجحت فعلًا في تغير الحكومة التابعة لروسيا إلى حكومة تابعة للغرب، ما جعل بوتين يستثمر تلك الظروف ويحتل القرم ثم ينتقل إلى سوريا، وتأسيس قاعدتين عسكريتين على البحر المتوسط في طرطوس واللاذقية، واليوم دخل بويتن أوكرانيا ولن يخرج منها حتى يحقق أهدافه الاستراتيجية، فليس من الحكمة أن تصطف السعودية إلى جانب الولايات المتحدة أمام الدب الروسي، وتنقض تعهداتها واتفاقها مع روسيا حول اتفاق أوبك+.
يبدو أن الولايات المتحدة لم تتعود على أن تتخذ السعودية مواقف محايدة، ولا شأن للسعودية في أن يسخر الأمريكيون من بايدن، فمذيع فوكس نيوز يقول: السعوديون أغلقوا الهاتف في وجه الرئيس، لقد توسل إليهم ولم يردوا على اتصالاته، كم هذا مذل؟ وقالت عضوة الكونغرس الجمهورية لورين بويبرت أن قادة العالم يريدون التحدث مع شخص مسؤول، ليس الشخص الذي يأكل “آيس كريم”، فبايدن أساء لنفسه وأغضب القادة العرب الفاعلين وأصحاب القرار في المنطقة، وها هو يجني ثمار ما زرعه وعليه تحمل المسؤولية وإعادة النظر في سياساته تجاه قضايانا والتعامل معها بجدية، واهتمام هذا ما جاء في صحيفة وول ستريت جورنال.
هذه الحرب تقلق الصين التي تعتمد في توسعها الاقتصادي عبر السلم، واعتبرت أن ما يجري في أوكرانيا بالمقلق، وعقد الرئيس الصيني في مؤتمر عبر الفيديو في 8/3/2022 مع المستشار الألماني أولاف شولتس، والرئيس الفرنسي إيمانول ماكرون، عن أسفه إزاء عودة الحرب إلى القارة الأوربية، وأكد شي جينبيغ وجوب احترام سيادة وسلامة أراضي جميع الدول، في إشارة إلى روسيا، وشدد أيضًا على المصالح الأمنية المشروعة لجميع البلدان يجب أن تؤخذ على محمل الجد، كما يجب دعم جميع الجهود المبذولة من أجل حل سلمي، واعتبر العقوبات ذات الصلة لها تأثيرات على الموارد المالية والطاقة والنقل واستقرار سلاسل التوريد في جميع أنحاء العالم، وتتسبب على حساب الجميع في تدهور الاقتصاد العالمي الذي يعاني من الجائحة، وترفض بكين إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، وامتنعت الصين عن التصويت على قرار إدانة صدر مؤخرًا من الأمم المتحدة.
بالفعل تنازل بوتين عن تغيير النظام في أوكرانيا، وتنازل الرئيس الأوكراني زلينسكي عن مطالب الانضمام للناتو إلى التزام الحياد، ولديه استعداد لحل وسط في القرم وجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، وبدا زيلنسكي مستعدًا للتفاوض بعدما كانت تلك شروط تعجيزية، ومقابل وقف الولايات المتحدة النفط الروسي بشكل آحادي نحو 400 مليون برميل يوميًا حيث تعتبر الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط في العالم أكثر من 15 مليون برميل يوميًا، لكنها تستهلك 20 مليون برميل يوميًا.
كذلك فرضت روسيًا حظرًا على تصدير المواد الخام خارجيا، ومعروف أن أوروبا تعتمد كثيرًا على الفحم والحديد وكثير من المعادن عدا الغاز والنفط الروسي، التي رفضت أوروبا أن تشارك الولايات المتحدة في منع الغاز والنفط الروسيين، حيث تستهلك أوروبا 500 طن سنويًا من النفط تورد لها روسيا 30 بالمائة من هذه الكمية، أي 150 مليون طن، بالإضافة إلى 80 مليون طن من البتروكيماويات، ويواجه الاقتصاد الروسي أخطر أزمة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، وذلك بعد فرض الغرب عقوبات قاسية على النظام المالي والشركات في روسيا بالكامل، في أعقاب الهجوم العسكري على أوكرانيا.
ترفض السعودية الاصطفاف في حرب ليست طرفًا فيها، لكنها عرضت الوساطة على روسيا وأوكرانيا عقب اتصالين تلقاهما ولي العهد الأمير محمد بن سلمان من الرئيس بوتين ومن زيلينسكي على دعم السعودية لكل ما يسهم في خفض حدة التصعيد، واستعداها للوساطة بين جميع الأطراف، ودعمها للجهود الدولية الرامية لحل الأزمة سياسيًا.
—————————-
Dr_mahboob1@hotmail.com