قال صاحبي: ما قصة العصا التي أصبحت تمسك بها، ولا تكاد تُفارقك، هل هي لحاجة، أم من مكملات الشخصية، أم لك بها مآرب أخرى؟
صاحبت العصا الإنسان منذ الأزل، فهي أداته للصيد، والدفاع عن النفس، والوصول للبعيد، والدليل لمن فقد بصره، وغيرها من الاستعمالات. وقد اهتمت بها الشعوب على اختلافها، وصارت لدى بعضهم رمزًا للوجاهة، ومقتصرة على علية القوم، من الوجهاء، والأثرياء والقادة، ورجال الدين؛ ولذا حظيت العصا بالعناية والتزيين، والتفاخر بين ملاكها بأشكالها، وطريقة تجميلها، وأنواعها، وتاريخها، وأثمانها.
وللعرب أيضًا عناية خاصة بالعصا، في حياتهم بشكل عام، ويتضح ذلك من ارتباطها بأشعارهم، وقصصهم، وأمثالهم المتداولة والمشتهرة بين المجتمعات العربية، والمحفوظ منها في كتاباتهم ومنها ما دونه الجاحظ؛ حيث أطنب في تمجيدها، وتعداد استخداماتها، وكذلك في كتاب مجمع الأمثال لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني النيسابوري، وغيرهما. ومن المروي في السنة النبوية المطهرة أن نبينا محمد عليه الصلاة والسلام خطب الجمعة وهو معتمد على عصا، أو قوس، واشتهر عن بعض خطباء المسلمين اتخاذهم عصا يتكئون عليها أثناء خطبتهم.
وورد ذكر العصا صريحة في القرآن الكريم في مواضع عده، ومرة واحدة بلفظ (منسأته) وهي من أسماء العصا، بلغة أهل الحبشة كما ذكر ذلك بعض المفسرين، ومن العصا التي اُشتهرت، عصا نبي الله موسى عليه السلام، فلها بُعدها الديني، ورمزيتها التي حولتها من أداة خشبية إلى وسيلة لمعجزة خارقة وقادرة على تحقيق العجائب، من التهام حيات السحرة، وكشف زيفهم وتدليسهم على الحضور، إلى فلق البحر وإغراق فرعون وجنده، وقد اتخذ منها رجال الدين في الكنسية عصا مزينة بحوتين شعارًا ورمزًا للنصر والخلاص.
ولم تقف العصا عند هذا حتى بعد أن انحسرت مكانتها، وقلت الحاجة إليها، فقد أصبح استخدامها في مصطلحات السياسيين له مدلوله ومعانيه الخاصة، فمسك العصى من المنتصف، يعني الاحتفاظ بمسافة واحدة من الجميع، يرى فيها البعض دهاء وحكمة، ويراها البعض عدم القدرة على اتخاذ الموقف الصريح مهما كانت تبعاته. والعصا والجزرة سياسة تلوح بها الدول لخصومها في الداخل والخارج، جامعة بين الترغيب والترهيب. وشق عصا الطاعة تعني التمرد والخروج على النظام الحاكم، والعصا لمن عصى، أي العقوبة لمن يخرج عن القانون، والعصا الغليظة ترمز للقوة واستخدام العنف، وإذا كانت العصا بيدي فالحق معي، وهذا ما تستخدمه الدول القوية، فالفيتو مثلًا قادر على إسقاط القرارات التي لا تروق لأحد الخمسة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن دون سواهم.
أنت عصاي؛ قالتها لي والدتي -شفاها الله وعافاها- بعد أن منحتني العصا التي كانت تتوكأ عليها، وأصبحت لا تستطيع استخدامها. أنت عصاي، كلمات سهلة في مبناها، عظيمة في معناها، كلمات زلزلتني، رفعت بها مقامي، وأحسنت بي ظنها، أنت عصاي، ليست مجرد كلمات عابرة، فقد اصطفتني لأصبح عصاها بما تمثله هذا العصا لمن احتاج استخدامها، والاعتماد عليها، حتى أصبحت رفيقة دربه، ….
قلت لصاحبي:
كل الديون قد تُقضى إلا ديون الوالدين.
﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِیَّاهُ وَبِٱلۡوَ ٰلِدَیۡنِ إِحۡسَـٰنًاۚ إِمَّا یَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَاۤ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَاۤ أُفࣲّ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلࣰا كَرِیمࣰا ٢٣ وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّیَانِی صَغِیرࣰا ٢٤﴾ سورة الإسراء