المقالات

تاريخنا التمريضي

لا يوجد ممرض وممرضة لم يدرس ويتدارس قصة رائدة التمريض الحديث “فلورانس نايتينجيل”؛ حيث تعدُّ نموذجًا هامًا في كل الكتب التأسيسية لمهنة التمريض. ولمن لا يعرف “فلورانس نايتينجيل” فهي من عائلة بريطانية عريقة وغنية شاركت عام 1853م كممرضة خلال حرب القرم، والتي اندلعت بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية، وكانت بريطانيا تحارب إلى جانب الدولة العثمانية في ذلك الحين. وثق العلماء والتاريخ أن الرعاية التمريضية التي قدمتها الممرضة “فلورانس نايتينجيل” كانت سببًا في توفير بيئة تمريضية عالية فساهم ذلك في شفاء الجنود مما أدى إلى انتصار العثمانيين مع البريطانيين فأصبحت بطلة وطنية في بريطانيا، وإلى يومنا هذا يتغنى البريطانيون بها وبأمجادها التمريضية لدرجة أن شيدوا ثمثالًا لها.

وعلى رغم أني من أشد المعجبين بفلورانس نايتنجيل “سيدة المصباح” كما تلقب من محبيها ومعجبيها؛ وذلك لما حققته في تأسيس علوم التمريض إلى أنني أعلم يقينًا كذلك أن التمريض له رائدات في التاريخ الإسلامي يستحقن منا الإشادة والإعجاب والثناء مثل الصحابية الجليلة “رفيدة الأسلمية”، والتي شاركت في العديد من الغزوات مع النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، لقد ذاع صيتها واشتهرت في غزوة الخندق حينما أمر النبي -محمد صلى الله عليه وسلم- أن ينصبوا لها خيمة لمداواة الجرحى وتمريضهم، وتقديم الرعاية الصحية والعناية بهم. وكان نبي الأمة -صلى الله عليه وسلم- يمر على خيمتها فيتفقد الجرحى ويواسيهم ويدعو لهم. كما يشار أن “رفيدة الأسلمية” شاركت في خدماتها التمريضية في غزوة خيبر؛ ولذلك أسهم لها النبي -صلى الله عليه وسلم- بسهم رجل مثلها مثل الرجال المجاهدين في الغزوة. ومن الجدير بالذكر أن إسهامات رفيدة الأسلمية في التمريض لم تقتصر على الحروب فقط فقد كانت تداوي المرضى في المدينة المنورة فتألقت ودربت فريق من أمهات المؤمنين أمثال عائشة بنت أبي بكر وغيرهن ليساندها في تقديم الرعاية التمريضية خلال الحرب أو السلم.

وإذا اعتمدنا على التاريخ فتكون رُفيدة أول ممرضةٍ في التاريخ منذ عام 620م وهو قبل حتى ولادة فلورنس نايتينجيل بسنوات عديدة. ولكن التاريخ العالمي قال كلمته وأصبحت فلورانس نايتينجيل مؤسسة التمريض، ويشار لها بالبنان في كل فعالية ومؤتمر لدرجة أن خصص اليوم العالمي للتمريض 12 مايو من كل عام تزامنًا ليوم مولدها تمجيدًا لجهودها وإشارة لجهود الممرضين والممرضات في كل العالم لدورهم الفاعل في المنظومة الصحية. وفي اعتقادي السبب في ذلك أن كتب التمريض العلمية والعالمية تخلو من الإشارة لرائدات التمريض المسلمات، وقد يكون ذلك تقصيرًا منا لعدم إيصال هذا الإرث بلغات أجنبية وبفكر علمي أصيل مما يساهم في إيصاله للعالمية.

وجميل أن يكون هناك تاريخ عالمي للاحتفاء بمهنة التمريض نشارك فيه ونؤيده والجميل كذلك العمل من كوادر المهنة المسلمين لتأصيل تاريخنا ومجدنا في التمريض من خلال التوثيق بالكتب العلمية والقصصية ووسائل التواصل ومقررات برامج التمريض التدريسية والأبحاث والجوائز السنوية والموسمية والجمعيات الخيرية. وهناك بادرات من هنا وهناك ومحاولات لهذا المنحنى فعلى سبيل المثال في الكثير من البلدان العربية يطلق اسم رفيدة الأسلمية على كليات التمريض. وفي عام 2016م تم تأسيس جمعية رفيدة بمدينة الرياض. وتم إطلاق جائزة بالمملكة بمسمى جائزة رفيدة الأسلمية والتي تقدم لممرض قام بجهود مميزة لمهنة التمريض. كما اعتمدت دول مجلس التعاون الخليجي عام 2011م تاريخ 13 مارس من كل عام موعدًا للاحتفاء بيوم التمريض الخليجي؛ وذلك بادرة للإشارة لعمق تاريخنا الإسلامي في المهنة؛ حيث إن هذا التاريخ والذي قصد به السابع عشر من رمضان للسنة الثانية للهجرة يوافق مشاركة المرأة المسلمة بالعمل التمريضي في الإسلام.

كل هذه الجهود هامة وفاعلة لتأصيل تاريخنا ومجدنا الذي من المهم أن نؤكد عليه لأجيال التمريض الواعدة؛ ليكون تمريضنا انعكاسًا وامتدادًا لتاريخنا. مازال الاستزادة في هذا الجانب ممكنًا، وبالدعم الاستراتيجي يمكن أخذه لأبعاد كثيرة خاصة مع النقلة النوعية في التقنية وشبكات التواصل المتعددة، وبوجود الرؤية والتطلع يمكن أن نقدم كتبًا وأبحاثًا رصينة أو حتى برامج مدبلجة أو أفلام بطرق محترفة للوصول لأكبر شريحة ممكنة للتعليم وللتذكير؛ ولتنير بصيرة من يعلم ومن لا يعلم بتاريخنا التمريضي.

————————-

عميدة كلية التمريض بجامعة الملك عبد العزيز

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button