د. عبدالله العساف

الحقيقة.. أول الضحايا

قال صاحبي: في كل حرب تسقط ضحايا من غير البشر، الحقيقة أولها، فما انعكاسات الأزمة الأوكرانية على الإعلام، وكيف تعامل أطراف الصراع مع وسائل الاتصال المختلفة، وهل بقي من يصدق بوجود حرية إعلامية، أو وسيلة مستقلة بعد اليوم، ماذا نستفيد؟

حمل القرن الحادي والعشرون الكثير من التحديات، ومنها التحديات الإعلامية التي كشفت حقيقة المبادئ والأفكار والنظريات التي حظيت بقدرٍ من القداسة، فأصبح من الضرورة إخضاعها للدراسة والمراجعة، بعدما ظهرت الكثير من التناقضات بين النظرية والتطبيق، وهذا الاتجاه نفسه تبنته نتائج لجنة هوتشنز، التي أصدرت تقريرها “صحافة حرة ومسؤولة”.

يعد نقل الأخبار للجمهور من أهم الوظائف التي تُمارسها وسائل الاتصال الحديثة، فالأخبار هي اللبنة الرئيسة التي يُبني عليها جميع الأشكال الإعلامية التي تقدم عبر وسائط الاتصال المختلفة، فالجمهور يزداد اعتماده على وسائل الاتصال، وطلبه للأخبار في حالة عدم الاستقرار، والصراع، بحثًا عن التفسيرات الملائمة للأحداث، الأمر الذي يؤدي إلى الحاجة إلى صناعة معانٍ ثابتة للأحداث، تسهم في تكوين رأي عام تجاهها، كما هو في الأزمة الأوكرانية، والتي أسفرت عن جملة من النتائج وهي لا تزال وليدة في أسبوعها الثالث.

فقد عكست التغطية الإعلامية لهذه الأزمة العديد من الإشكاليات، ولعل أبرزها، العلاقة الوثيقة التي ربطت بين الأداء الإعلامي والتوجهات السياسية، حتى بدا أن هذه الوسائل جزء من المؤسسة السياسية والعسكرية لأطراف الصراع، وخصوصًا الأمريكية والأوروبية، التي ما فتئت تملأ الدنيا ضجيجًا بحرية الإعلام، وبحق الإنسان في المعرفة، وبحرية التعبير، هذا التقارب أثار العديد من التساؤلات عن مدى استقلالية ومصداقية وسائل الإعلام الأمريكية/ الأوروبية تحديدًا؛ عندما صارت عنصرًا فاعلًا من عناصر الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا.

ولهذا يمكن القول بضمير مرتاح بأن المؤسسات الإعلامية ليست أكثر من أدوات وأجهزة لخدمة دولها، حتى وإن زعمت غير ذلك، والمتغير الوحيد هو أشكال وأساليب تلك الخدمة، والمهام والوظائف المطلوب تحقيقها، والقوى المطلوب خدمة مصالحها،فالأيديولوجيا السياسية للدولة من أكثر العوامل تأثيرًا على العمل الإعلامي، لتوجيهالرأي العام في الاتجاه الذي يرسمه النظام السياسي، لتـنشئة أفراد المجتمع وتشكيل هويتهم ومواقفهم السياسية.

ومما يمكن ملاحظته على الإعلام الغربي في هذه الأزمة تعذر الحصول على الأخبار الصحيحة من مصادرها الرسمية بسبب فرض الرقابة الصارمة على هذه المصادر، أما بمنعها من الوصول للمعلومات، أو بحجب مواقع الإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي المتعددة، فصارت المؤسسات الإعلامية وسيلة دعائية تنفذ إستراتيجيات سياسية لمصلحة الأطراف المتنازعة، وأصبح الصحفيون النزيهون أقل استقلالية ومقدرة على التحقق من مدى صحة روايات المسؤولين حول الأحداث، وغدتالتغطية الإخبارية مجرد وسيلة تستخدمها القيادة السياسة والعسكرية لبث وجهات نظرها، وأضحت الأخبار المعاصرة نسخة مماثلة للخطابات التي يلقيها المسؤولون.

فرانك سيسنو مراسل محطة CNN في البيت الأبيض لخص هذه الحقيقة عندما قال: “إن الرسائل الإعلامية أثناء الحروب والأزمات لا تخلو من الكذب والتضليل، بسبب فرض السلطات رقابة شديدة على مصادر المعلومات، فمنذ حرب فيتنام أول حرب تلفزيونية، مرورَا بحرب الفوكلاند إلى الحرب الروسية/ الأوكرانية، أصبحتوسائل الإعلام والاتصال  تقدم مضامين تخدم الطرف الأعلى صوتًا، والأكثر تحكمًافي هذه الوسائل، ليس من خلال استخدام آليات الرقابة على التغطية الإخبارية للحرب فقط بل من خلال عملية إعادة إنتاج  القصص الإخبارية لتقديمها كمبرر للحرب، كالدفاع عن الحقوق والحريات، أو بوصفها بالحرب النظيفة التي ليس فيها  خسائر قد تؤدي إلى زعزعة الرأي العام، وتؤدي إلى رفضه للحرب.

أبرزت التغطية الإعلامية لهذه الأزمة، عنصرية الغرب، وهو ما عكسته رسائلهم الإعلامية، وكأن الخطاب العنصري أصبح مباحًا ودون قيود!، ففي هذه الحرب سقطت القيم التي كان يرفعها الغرب عندما كانت تخدم مصالحة، وتجلت حقيقته الناصعة من خلال مواقفهم الحازمة مع دولة تشبههم، في مقابل بيانات إعلامية لا تتجاوز القلق والتنديد مع بقية البشر، كم هي مؤلمة تلك المواقف العنصرية المرحبة باللاجئين بحسب لونهم، والمكان الهاربين منه، مع إهمال الآخرين الذين تعرضواللتهجير والقـتل والاحتلال من الغرب المتحضر، وبأسلحته المتطورة!.

أكدت هذه الأزمة مرة أخرى قدرة وسائل الإعلام الموجهة على شيطنة الطرف الآخر، فالإعلام الغربي لديه خبرات تراكمية، ومقدرة مهنية على قولبة الأشخاص، ورسم صورتهم كما يحلو للإعلام الغربي، الذي حول الديكتاتور جويف ستالين إلى العم اللطيف جو، وعندما انتهت المصلحة، أعاد الإعلام الغربي وسمه بالديكتاتور، وغيرها من أبشع الأوصاف، ثم استثمر الغرب تجربته مع ستالين، وهتلر، وصدام حسين، وغيرهم من خلال سعيه لشيطنة الصين، وروسيا وبوتين، وتحولت بوتين فوبيا إلى ظاهرة لا تكاد تغيب عن حديث الإعلام والسياسيين في الغرب.

قلت لصاحبي:

لم يعد الإعلام وسيلة.. ولا رسالة.. بل سلاحًا وصناعة.

أ. د. عبدالله العساف

استاذ الإعلام السياسي_ جامعة الامام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى