يعيش البشر أزهى عصورهم بكل تأكيد، لم تكن حياة الإنسان على هذا الكوكب أكثر تطورًا من أيامنا هذه، لقد حقق البشر اختراقات عظيمة في كل المجالات، العلوم تطورت والصناعات ازدهرت، أصبح البشر أغنى وأكثر صحة (جسديًا)، وطوعوا كل شيء لمصلحتهم من الطبيعة وحتى الفضاء الخارجي، وهناك آفاق تنفتح أمامهم كل يوم وفي كل مجال، لا أحد يمكنه نكران ذلك، التاريخ يقول ذلك والوقائع تدعمه لكن حديثنا هنا سيكون عن جانب آخر لا يكاد يهتم به أحد في خضم هذه الثورة العظيمة، لعل أهم ما ميَّز القرن الجديد هو ثورة المعلومات وتلك الطفرة الهائلة في التواصل التي تحققت بفضل اختراع وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، لقد أصبح العالم حرفيًا قرية واحدة، أنا أحصل على الخبر عن أحداث وقعت في أمريكا دقائق بعدها في حين كان يحتاح جيل والدي عدة أيام؛ ليصلهم خبر من القرية التي تليهم ولن يكون موثقًا بالصوت والصورة كالخبر الذي يصلني أما أجدادنا فبالتأكيد لم يعرفوا شيئًا عن معظم البشر الآخرين ولنقل لم يعرفوا كل شيء عن بلدهم نفسه حتى، التواصل أصبح أسهل وتدفق المعلومات هائل والفرص أفضل في كل شيء لكن ما هو الثمن الذي ندفعه لهذه “المعرفة” الهائلة ؟ لقد أصبح العقل البشري يستقبل كمية معلومات في اليوم الواحد تفوق ما استقبله عقل بشري في حياة كاملة قبل قرون قليلة، أريد أن نتحدث عن الضغط النفسي الهائل الذي وضعنا هذا التطور تحته، أن نتحدث عن حقيقة أن الاستقرار النفسي والعاطفي لدى البشر منهار دون أن يلحظ معظمنا ذلك، الاستقرار والأمان والعيش كبشر عاديين انتهى للأبد وأسوأ ما في الأمر أن خسارتنا هذه يتم التعامل معها ببساطة؛ وكأنها “خسارة جانبية” ضرورية لعملية التطور هذه !
المعايير المرتفعة والخيالية
يجب أن ننطلق من حقيقة بسيطة لا يمكن تجاهلها وهي أن معظم البشر هم متوسطون أو تحت المتوسط في كل شيء، معدل الذكاء والشكل الخارجي وفي الإبداع وحتى في الدخل المادي، الحالات “الحدية” هي الاستثناء وليست القاعدة ما يحصل اليوم أن تلك الحالات “الحدية” في جانب منها أصبح من المفروض علينا أن تكون هي القاعدة، أصبحنا نبحث كلنا عن مكان “مرتفع” و”مكانة” عالية في كل شيء، سأبسط الأمر قليلًا، على وسائل التواصل يوجد معظم البشر، هم ينشرون كل تفاصيل حياتهم لكن الحالات الناجحة جدًا أو الفاشلة جدًا هي التي تحظى بالاهتمام، بين مليارات البشر نمط عيش فئة قليلة أصبح هو “المعيار”، مشاهير الرياضة والفن مثال جيد لهؤلاء، أنا حين أتصفح وسائل التواصل الاجتماعي لا يحتفظ دماغي بأية معلومات عن مليارات البشر العاديين بينما يحتفظ بأدق التفاصيل عن حياة وشكل رونالدو وتوم كروز أو نانسي عجرم، رغم أن هذه حالات استثنائية و”حدية” إلا أن عقلي الباطني -وكذلك معظم البشر- يجد نفسه واقعًا تحت ضغط “مقارنة” غير واقعية، لنذهب أبعد من ذلك ولنتحدث عن “المعيارية” لدى الأزواج أو الشركاء العاطفيين، لم تعد الأمور بتلك البساطة والرومانسية، المعايير التي يحتفظ بها الشريكان في لاوعيهما تحت تأثير التراكم السمعي البصري تجعلهما يعيشان انفصامًا عن الواقع بطريقة أو أخرى، في أيامنا هذه لا تستمر الشراكات العاطفية طويلًا لأسباب نتجاهلها كلنا، كلاهما يطمح لمواصفات لن تتوفر لدى الطرف الآخر، هذه المواصفات وهذه “المعيارية” ترسخت شيئًا فشيئًا في باطنه؛ نتيجة سيل لا ينتهي من المعلومات المضللة، صدقوني معظم الرجال والنساء يعيشون تحت ضغط عاطفي هائل نتيجة هذه “المعايير” الخيالية والاستثنائية، والتي من المرجخ أنها لن تتوفر في الشريك، معظم البشر هم عاديون في كل شيء كما سبق وأوضحنا، لن تحصل كل النساء على ذلك الزوج مفتول العضلات والغني جدًا والوسيم ولن يحصل معظم الرجال على زوجات بملامح وتقاسيم تلك السيدة التي تظهر على التلفاز، مليارات البشر هم ضحية هذه “المعيارية” والمقارنات السخيفة والخيالية وحتى لو أنكر معظمكم فالحقيقة هي أنه في مكان من عقلي أو عقلك توجد واحدة من حالتين، إما أنك تشعر أنك “أفضل” من ما حصلت عليه أو أنك “أقل” من ما حصل عليه الآخرون، الحالتان مرضيتان وتضعان معظم البشر تحت ضغط نفسي وعاطفي لايمكن تخيله، أزعم أن كل واحد بين ثلاثة أشخاص يعاني من تبعات هذا الأمر بطريقة أو بأخرى.
أزمة الوفرة والاستهلاك
قبل أقل من قرن عُد جدي من أغنياء عصره لأنه امتلك قطعانًا من المواشي ومزرعة نخيل، كان يمكنه إعالة عدد غير محدود من الناس (وقد فعل) في ظروف تعتبر حسنة وبمجهود قليل، في أيامنا هذه أبذل جهودًا مضاعفة لما بذله وبالكاد أعيل عائلة صغيرة، ما الذي حدث أو ما الذي تغير؟
في الواقع تطور نمط الاستهلاك بسبب “الوفرة” حتى وصل الأمر حد الجنون، ذلك الذي يكتفي بزوج أحذية لعدة سنوات أصبح اليوم يشتري عدة أزواح من الأحذية لكل فصل من فصول السنة، بتعبير أوضح أصبحنا ندور في حلقة مفرغة، يتضاعف المعروض ونكاد نقتل أنفسنا للحاق به، مهما كان ما ستفعله في أيامنا هذه فسيبقى أقل من المأمول، لو اشتريت لزوجتك سيارة جديدة فذلك مجرد عمل “عادي” جدا لأن هناك آلاف الأزواج الذين اشتروا لزوجاتهم ثلاثة سيارات في سنة واحدة وهو أمر قاموا بتوثيقه على الانستجرام، وأيا كانت التضحيات التي ستقدمها لأبنائك فأنت أب عادي وربما أنت “سيئ”؛ لأن هناك آباء آخرين أرسلوا أبناءهم لجزر المالديف في العطلة الصيفية الماضية، حسنًا أبناؤك تابعوا مراحل تلك الرحلة على الفيسبوك وهم يشعرون في مكان ما من قلوبهم وعقولهم أنك “سيئ”؛ لأنك لم تقدم لهم مثل ذلك، لن يشعر معظم الأزواح بالرضا أبدًا لأن زوجاتهم “أقل جمالًا” من نساء تزوجهن من يرون أنه “أقل منهم”، مرة أخرى نعود لموضوع “الاستحقاق”، معظم البشر أصبحوا يشعرون أنهم “يستحقون “كل ما حصل عليه غيرهم أو أفضل حتى، السيئ في الأمر أنهم لايمتلكون آليات واضحة لتحقيق ما يترتب على ذلك “الاستحقاق” وبالمحصلة يقعون تحت ضغط هائل لا يمكنهم التخلص منه، وربما الطريقة الوحيدة التي يتركها أمامهم هي الغضب وصولًا لأمراض نفسية تبدأ بالإنكار وتنتهي بالجنون.
في العادة أنا أكتب في السياسة حصرًا؛ لذلك لا يمكنني أن أنهي المقال دون التعريج عليها قليلًا، ذلك الحنق والغضب الذي تلحظونه لدى شعوب بعينها تجاه شعوب توفرت لديها مستويات أفضل من الرفاهية لأسباب مختلفة هو أحد تجليات ونتائج هذه الضغوط الناتجة عن ثنائية “المقارنة” و”الاستحقاق”؛ فنتيجة غياب الآليات والوسائل التي تجعلهم يحققون ذلك المستوى من العيش الرغيد تحول الأمر لغضب شديد وحقد دفين مزمن، لعل الفرصة مواتية لأشير إلى أن أننا كمسلمين نمتلك الوصفة الملائمة التي ستخرجنا من هذا النفق، نحن مأمورون بالأسباب ثم التسليم بالقدر، الإيمان العميق بهذا الأمر سيجعلنا نستفيد من جوانب ثورة التواصل الجيدة في حين نقلل من خسائرنا “الجانبية”، الإيمان بأننا في النهاية -أو معظمنا- بشر عاديون متوسطون في كل شيء، والابتعاد عن هراء “التنمية البشرية” ومحتالي يوتيوب الذين يضعون مصائر الناس مقابل الحصول على المشاهدات هي المفتاح، لعل أهم ما يميز حياة البشر هي أنها عادية في الشكل لكنها استثنائية في الجوهر………