المقالات

عندما تخلى الغرب عن أوكرانيا في حربها مع روسيا

بينما حدّدت واشنطن وأيّدتها بريطانيا بأن موعد الغزو الروسى لأوكرانيا سيكون الأربعاء 16 فبراير الحالى، استنادًا إلى تقارير استخبارية أمريكية، مثلها مثل التقارير المزيّفة حول امتلاك العراق أسلحة نووية استخدمت لغزو وتدمير العراق، تلقى الرئيس بوتين إفادة من وزير الدفاع بأن جزءًا من المناورات الكبيرة التى جمعت قوات روسية وأخرى من بيلاروسيا قد انتهى، وجزءًا آخر على وشك الانتهاء، وجزءًا ثالثًا سوف يستمر بعض الوقت، مع إشارة إلى المناورات البحرية الكبرى لكل الأساطيل الروسية فى بحر بارنتس والبحر الأسود وبحر البلطيق، ومع أسطول المحيط الهادئ. الإفادة أعلنت على الهواء فى سابقة لا تقدم عليها الدول إلا لإرسال رسالة ذات مغزى آني، وآخر استراتيجى فى الوقت ذاته.. حسن أبوطالب.
المغزى الآني يتعلق بأن روسيا لن تقدم على غزو أوكرانيا. تلك بدورها ضربة قوية لحالة الهيستريا السائدة فى عواصم غربية كثيرة، أبرزها واشنطن ولندن، وضربة لموجة التكهنات والتحليلات الموجّهة سلفًا بغرض توريط روسيا فى مستنقع أوكرانى يستنزف مواردها ويتيح للغرب عزلها دوليًا وفرض عقوبات هائلة عليها، وفقًا للتصريحات التى كرّرها مرارًا كل من الرئيس الأمريكى بايدن ورئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون.
جميع التحليلات الأمريكية والبريطانية تصور الأمر على أن الرئيس بوتين فى وضع حرج، وأن تراجعه عن غزو أوكرانيا بعد التهديدات الأمريكية والغربية، سيكشف مدى خسارته السياسية وعدم حصوله على شىء. وهى تحليلات تفيض ضلالًا وخداعًا. فموسكو لم تعلن أبدًا عن نية الغزو لأوكرانيا، وأقل باحث فى إدارة الأزمات الدولية كان يدرك -وما زال- أن الحشود العسكرية الروسية والمناورات الكبرى التى استمرت لعدة أسابيع هى جزء أصيل من التفاوض فى مراحله الأولى غير المباشرة، والتى تحدّد الأولويات للتفاوض لاحقًا، وهدفها الرئيسى ليس أوكرانيا فى حد ذاتها، بل الناتو وتمدّده المستمر حتى الحدود الروسية، دون أدنى اعتبار لمبدأ الأمن المتوازن الذى يمثل أساس استقرار النظام العالمى.. المصدر السابق نفسه.
يبدو أن الأهداف التي حددها الرئيس الروسي في بداية الغزو الروسي قد تم تقليصها أثناء الحرب التي افترض أنها ستنتهي بانتصار سريع. لم يستطع بوتين حتى الاعتراف بأنها كانت غزوًا أو حربًا، مفضلًا عبارة “عملية عسكرية خاصة”. لكن ما هو واضح هو أنه يرى هذه لحظة محورية في التاريخ الروسي. ويقول رئيس الاستخبارات الخارجية سيرغي ناريشكين: “مستقبل روسيا ومكانتها المستقبلية في العالم على المحك”.. بول كيربي، بي بي سي نيوز.
وقال بوتين للشعب الروسي إن هدفه هو “نزع السلاح من أوكرانيا واجتثاث النازية منها”، لحماية أولئك الذين تعرضوا لما وصفه بـ 8 سنوات من التنمر والإبادة الجماعية من قبل الحكومة الأوكرانية. وشدد على أن “احتلال الأراضي الأوكرانية ليس خطتنا، لا ننوي فرض أي شيء على أحد بالقوة”.
فى السياق ذاته، فإن تصريح سفير أوكرانيا لدى لندن بإمكانية التراجع عن طلب الانضمام للناتو إذا كان ذلك يمنع الحرب، ورغم تراجعه لاحقًا، فإنه يعبّر عن الدوامة السياسية التى تعيشها النخبة السياسية فى أوكرانيا، واقترابها من تقديم تنازلات من أجل الحفاظ على وجودها كدولة قابلة للتطور. ولا شك أن حالة الهيستريا الدعائية الغربية، وإن جلبت الكثير من الأسلحة الغربية، فإنها أضرت بأوكرانيا حتى مع عدم حدوث حرب، فقد تراجعت التدفّقات الاستثمارية، وخلقت حالة رعب شعبي من غزو روسى محتمل صوّره الغرب على أنه حتمي، وصارت صورة أوكرانيا فى الإعلام الغربى كدولة معرّضة للفناء، أو للفوضى المدمّرة على أقل تقدير، ولم تعد الحكومة الأوكرانية فى حال يسمح لها بالحديث العدائى المباشر لروسيا، وجاءت تصريحات الرئيس بايدن بأنه لن يرسل أى قوات إلى أوكرانيا إن دخلت القوات الروسية، لأن ذلك سيؤدى إلى حرب عالمية بين قوتين نوويتين، بمثابة إفاقة للعقل الأوكرانى الرسمى، ولتؤكد أن أوكرانيا لن تجد الدعم المُتخيل من الغرب، والذى كل هدفه التخطيط لجعل أوكرانيا ورطة كبرى لروسيا لا أكثر ولا أقل، وأن الثمن الأكبر ستدفعه أوكرانيا وشعبها، ولن تحصد سوى هيستريا دعائية أخرى لتشويه روسيا وتبرير العقوبات الدولية عليها. أما أمن ووجود أوكرانيا ذاته فسيأتى فى مرتبة متأخرة جدًا.. العربية، 2022.
ومن هنا وجب إفاقة العقل الأوكرانى من أوهام الدعم الغربى اللامحدود، خطوة مهمة تنعش آمال الحلول السياسية المتوازنة، ويأتى طلب كييف باجتماع منظمة الأمن والتعاون الأوروبى لمناقشة روسيا فى أسباب حشودها على الحدود الأوكرانية، خطوة رمزية فقط، وليس بما انخدع، وتوهمه الأوكرانيون، ولكنّها تُعزّز فكرة البحث عن مسارات سياسية للاجتماع مع الروس وبناء حالة ثقة تسمح لاحقًا بالمفاوضات الجادة والاتفاقيات المناسبة لأمن الجميع. والأمل ألا تتدخّل عواصم غربية معروفة بعدائها الشديد لروسيا، لتفشل تلك الخطوات الهامة جدًا، وتطيح بالجهود العقلانية لمنع الحرب والخراب.
لذا ومن الحكمة السياسية، وعبر دروس التاريخ، يستوجب على الحكومة الأوكرانية أن تتحلى بالعقلانية، وعدم الانخداع بالإعلام الغربي.. الذي جعل أوكرانيا في موقف لاتُحسد عليه.

—————-

-محلل سياسي، ومختص في العلاقات التاريخية بين الدول-

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى