رأى خادم لسيبويه حبلًا قد طوق رقبة حمار سيبويه وكاد يخنقه، فذهب مسرعًا ليخبره قائلًا له: يا سيدي، تلفلف الحبل في رقبة الحمار، فقال سيبويه: يا بليد قل: لُفَّ الحبلُ حول رقبة الحمار، فقال الخادم: لكن يا سيدي، أدرك الحمار قبل أن يموت، فقال سيبويه: يا بليد لموت الحمار خيرٌ من أن ينكسر النحو.!! هذه القصة القصيرة والطريفة تحمل في طياتها معاني كثيرة، وتجسَّد لنا حال الناس في كثير من المواقف؛ حيث تختلف ردة فعل الناس تجاه الأحداث التي تواجههم بحسب شخصية كل منهم. فهناك من يُقدر الموقف ويتصرف بحسب الظروف المرافقة للحدث، وبالتالي تجد تصرفه يختلف من وقت لآخر مع نفس الموقف بحسب تقديره للظروف المصاحبة، بينما تجد شخصًا آخر يتصرف كل مرة بنفس التصرف، ويتبع نفس الخطوات، ولا يختلف تصرفه باختلاف الحال أو الزمان والمكان.
ولذلك ظهر مصطلح روح القانون والذي يتردد دائمًا على ألسنة الناس؛ ولكن ربما يجهل الكثير منهم معناه الحقيقي، فقيادة شخص لسيارته بسرعة عالية؛ كونه متأخرًا عن إدراك موعد وليمة مدعو إليها، يختلف عن حال شخص أسرع بالسيارة لإنقاذ مريض أو إيصال امرأة حامل إلى المستشفى توشك على وضع مولودها. فالمسؤول هنا يُقدر الموقف بحسب منطقية الدافع لدى كل من الشخصين، وكذلك الحال عند النظر لحال السارق وقت السرقة ومعرفة الأسباب الحقيقية حولها، فالسارق الذي يسرق عن حاجة يختلف عن السارق الذي يسرق عن مهنة وكلاهما ينال عقوبته؛ إلا أن القاضي يقوم بتقدير حال كل طرف بحسب ظروفه والأسباب الداعية للسرقة، وربما جاء مبدأ روح القانون لا عطاء فرصة للناس للخروج أحيانًا عن المبادئ الصحيحة سواءً كانت قانونية أو أخلاقية في مقابل تطبيق المبادئ الإنسانية.
المشكلة الكُبرى أنه وفي بعض المؤسسات تجد الحمار هو بنفسه من يلف الحبل حول رقبته، وإذا حاول شخص ما تنبيهه وتحذيره من عواقب ذلك الأمر؛ فيتحول إلى شخص أصم أبكم أعمى لا يسمع، لا يتكلم ولا حتى يرى أحدًا، ويصبح شعاره (لا أريكم إلا ما أرى)، فإذا التف الحبل كاملًا حول عنقه وبدأ يختنق وجاءه أيضًا من يحاول إنقاذه؛ تجده يكابر ويرفض بل ويعاند ويردد: أموت ولا يتغير رأيي، أموت ولا أتراجع عن قراري؛ ولذلك ماتت حمير كثيرة وليس حمارًا واحدًا منذ عهد سيبويه إلى أيامنا هذه، ومات معها النحو والصرف والشعر والنثر ووئدت كثير من القيم الفاضلة والمبادئ السامية. انهارت مؤسسات وتدهورت أخرى وتخلفت بعضها عن مسار الرؤية؛ ومازال في الإدارة مكابرون يرددون: يموت الحمار ولا ينكسر القرار، فتموت الحمير؛ ولكنها لم تختفِ عن المشهد، بل تبقى محنطة في مكاتبها لا تقدم ولا تؤخر ولا تترك المجال لغيرها من الكفاءات التي تستطيع أن تعيد الحياة والحيوية لتلك المؤسسة التي أصيبت بالشلل أو شارفت على الوفاة، وإن كان بعض من تلك المؤسسات قد توفيت دماغيًا وربما أصبح نقل أعضائها أمرًا ملحًا للاستفادة من تلك الأعضاء في مؤسسات أخرى؛ قبل فصل أجهزة التنفس عنها ومن ثم تجهيز مراسم الدفن.
أنت تقصدني؟!
سألني صديق يعمل في إحدى المؤسسات قائلًا: هل تقصد إدارة أو مؤسسة معينة من خلال طرحك النقدي للجانب الإداري والتنظيمي في بيئة العمل الإداري فيما تكتب. فذكرت له أنني لا أقصد حمارًا بعينه!! عفوًا لا أقصد جهة محددة أو شخصًا محددًا، ولكن طبيعة عملي وخبرتي في مجالي التدريب والعمل الاستشاري والتي ناهزت الثلاثين عامًا؛ أزعم أنها كفيلة بأن جعلت بيئة العمل في أغلب المؤسسات عبارة عن كتاب مفتوح أمامي. ولكن كما يقول المثل: (اللي على راسه بطحاء يحسس عليها!!). فقال لي صديقي بالفعل؛ (اللي في بطنه ريح ما يستريح).
كلمة شكر
للقائمين على الحملة الإنسانية التي أطلقها معهد الإدارة العامة عبر منصة إحسان؛ بعنوان (طاب ذكرهم)، بتقديم صدقة جارية عن الزملاء والزميلات الذين توفاهم الله من منسوبي المعهد امتناناً ووفاءً للدور الذي أسهموا به في مسيرة التنمية، وهي خطوة جديرة بأن تحذو كافة المؤسسات حذو المعهد وفاءً لمنسوبيها الذين غيبهم الموت.
خير الختام:
(رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).