المقالات

مذكرات قلب مثقوب ( الفوانيس 1)

هناك لحظات يبدو أن الوقت يتوقف فيها. لحظاتٌ تتذكر فيها في ثانيةٍ بالكاد كلَّ اللحظاتِ المهمَّة في حياتك لتنسى أو تتذكر، ظننت أنني سأنسى الماضي وأمضي بعيدًا في غمرةِ الحاضر والمستقبل، ولكني بقيت أسترجع لحظات ماضي الذكريات كشيخٍ كهلٍ يسترجع أيام شبابه وقصص طفولته وأحداث عمره كلها في لحظة تأمل واحدة.. تمر أمامه كحلمٍ سريع.
حين استقر بنا المقام في (حي النصر) خرجت أتفقد هذا الحي الجديد بشغفٍ وتأمل حبُّ استطلاع الطفولة لا يشابهه حب.
وقفت متأملًا أزقة الحي مستندًا على جدار بيتنا، جدار واحد بواجهة معتمة مغبرة ومطموسة لا تستجيب للضوء، ولا يظهر عليها صورة، ولا ظل ولا خيال ليس فيها غير ذلك الاستواء المحايد الممتد وسط الثقوب والشروخ المتعرجة التي تملأ جدار البيوت الآيلة للسقوط من حولنا.
في جانب منه يوجد باب صغير بجانبه نبات داكن الخضرة حين لمسته اكتشفت أنه ريحان، يتسع الباب بالكاد لدخول شخص واحد في المرة الواحدة، عليه ألوانٌ من البلى والشحوب ومنقوش ببعض الذكريات الشاحبة.
تفتح أمي الباب وتصيح في جذل “هيا” أسرع بالدخول يرن خلفها جرس معلق في الباب لا يزال يرن في أذني من عتبة الباب، وأنا في عتبات الخمسين.
العتمة تحيط بالمكان .. لا يزال الجرس يصلصل في صالة معتمة خالية من الفُرش عدا بساط أخضر مخطط من نايلون تنزلق فيه أقدام الصغار تارة، وتتشبث به بقوة وببطء تارة أخرى، وعلى يمين الباب مجلس صغير عليه مفارش بيضاء ناصعة بعضها خال من الزينة، وبعضها مزركش باللون الوردي والأحمر في زاوية المجلس، هناك فانوس يضيء عتمة الظلام وهدوء الليل، كنت أتأمل ذلك الفانوس كثيرًا تدهشني تلك الشمعة التي تتوهج تارة، وتخفت تارات أخرى تضيء أرجاء الغرفة ووجوه الجالسين فيها.
وجهُ جدتي الذي رسمت عليه السنوات تجاعيد الزمن الغابر وذكريات الزمن الشاحب وجه أبي الطويل الناصع البياض مع لحية كثة وشعرٍ كثّ. ابتسامة أمي الهادئة التي ترحب بضيفنا القادم من الجنوب العم علي أبوراس، أتذكر ذلك الرجل الضخم ذو الوجه الحنطي الممتد عنقه إلى نافذة المجلس المطلة على الشارع المجاور تهب منها أنسام المدينة المعطرة بورد الياسمين ونبتة الريحان الذي كان يملأ أزقة حارة النصر.
في تمام الساعة الخامسة مساءً هناك موعد يومي للصغار غرسة بنت العمري وبنت جارتنا عزيزة المسترجلة الغامدية وزين ومحمد وسهيل وحاتم أبناء غرم الله الغامدي، وأبناء علي الزهراني عبد الله الملقب بالبجعة سعد الملقب بالبصّي أولاد عبد الهادي عمر وغرم الأطفال السُّمر أحمد الملقب ب(النَّكش) الذي صار لاعبًا في نادي أحد أبناء صالح التكروني كل هؤلاء الصغار، كان لهم موعد أشبه بالزفة خلف مؤذن جامع النصر الذي يحمل الفوانيس يجمعها ويرفعها بعصا طويلة لها منقار يشبه منقار النسر؛ لوضعها على حافة ماسورة مغروسة في الأرض تحمل الفانوس طيلة الليل من السادسة مساء وحتى التاسعة فقط ثم يعود لجمعها مرة أخرى أصوات أطفال الحارة تتردد في السماء كطيفٍ يمرُّ متسللًا في الظلام.
يمشي الناس تحت أضواء الفوانيس بين المسجد وبين بيوتهم في زيارات مختلفة.
(حارة النصر) هذه التسمية على اسم شركة النصر التي أقامت في الحارة لبناء المسجد، وهي التي أدخلت بعض الأضواء الخافتة إلى المسجد لتمتد بعد ذلك لبعض بيوت الحي.
تحتفظ الفوانيس بأسرار الحارة الأطفال الذين يلعبون البربر ومعهم المترجلة عزيزة التي لم يكن يشك أحد في أنوثتها؛ فهل كانت فقط تشبه الرجال لقوة شخصيتها وكونها جزلة ونتيجة العنف الأسري أو كثرة الاختلاط بالذكور، وهو الغالب لقد مرت الأيام واحتجبَتْ عن الصغار ثم سمعنا بأنها تزوجت فكان ذلك محل فرح واستغراب من صغار الحارة وشبابها؛ فقد طويت صفحة عزيزة الغامدية من ألعاب البربر وكرة القدم و(الدّحل) المسمى لبّ البيت، وهو عبارة عن دوائر تشبه الزمرد ولكنها مجرد كرات ثقيلة لها نظام خاص يعرفه الصغار وتصوره الفوانيس.
الجميع في الحيِّ يعيش كعائلة واحدة؛ لذا لم تكن لقاءات الشباب والبنات سرية بل كانت في وضح النهار عدا بعض قصص الحب البريئة التي تشهد عليها عيون الفوانيس في الحارة وتحتفظ بها كسرّ أزليٍّ قديم وأحيانًا تفضحها بتوهج مباغت يكشف رداء نظرةٍ هنا وهمسةٍ هناك أو منديلٍ أحمر ملقى على قارعة فانوس.
لم يكن يغيب عن عيني بعض تلك القصص التي كانت أقرب للبراءة من الشك كانت غرسة العمري تقف على باب بيتها تراقب الصغار وأضواء الفوانيس، وأنا أراقب وجهها الذي يشبه إطلالة قُرص الشمس ضحى، وتبسُّم وجه البدر ليلة تمامه تقف هناك على باب بيتهم مسنودة على عتبة بابٍ خشبي مسنود مثقوب ترتدي ثوبًا صيفيًا مزركشًا موشى بأزهار وأزرار.
غرسة لم تكن تدرك أن الصبي الغامدي بوجه جامد الملامح يراقب ذراعيها التي يكشفها نسيم المساء تارة ويغطيها تاراتٍ أخرى، وهي تبدو كزهرة متألقة بين ورود الحي تلتفت إليها النجوم أحيانا والفوانيس التي تغار منها عليها أحيانًا أخرى.
بقيت الفوانيس شاهدة على ذكريات الزمن الغابر في حارة النصر (أقدام العابدين والعابرين -نساء الحي- أطفال الحارة- فاتنات الجنوب – خطوط البربر – أغاني العيد- الحجَّة واللوز والفصص. بائعة اللبنية. اليمني متجول اليغمش. قصص الحب ودموع الفراق…) حتى امتدت إليها يد النسيان والتهمتها ذكريات الماضي وبلعها فم الحاضر بعد دخول الكهرباء لبعض بيوت الحارة التي كانت ترزح تحت حكم الفوانيس سنوات عدة مرت الأيام، واشترى والدي تلفازًا صغيرًا بالأبيض والأسود قبل التلوين.

كان جارنا العم صالح الغامدي زاهدًا متورعًا عن التلفزيون فترةً من الزمن وقد يعود ذلك لضيق ذات اليد كما هو حال العم علي الزهراني وعبد الله العمري وبعض بيوتات أهل الجنوب فكان ابنه وصديقي أحمد صالح الغامدي يتطلع بشوق لمتابعة المسلسلات الشهيرة (وضحى وبن عجلان. وفارس بني عياد)، وذات مرة اتفقت معه أن يتسلل إلى بيتنا ليلًا لسهرة جميلة قبل ذلك كنت قد مهدت لدخوله ورتب مع والده للمذاكرة سويًا، واستأذنت والدي فرحب بابن الجيران أيما ترحيب فكان أحمد يتعذر بمذاكرة الدروس عندي، ولكنه يتابع قصص الحب في وضحى وبن عجلان كلَّ ليلة.
نواة حارة النصر ست بيوتات من الجنوب
من غامد وزهران وبني عمرو ثم تكاثرت بيوت الحي حتى وصلت على ضفاف شارع سلطانة الطويل النائم على ضفاف العقيق حتى نهاية جبل سلع التاريخي.
مرت الأيام تلو الأيام وصار حي النصر من أكبر أحياء المدينة تحيط به أشجار الطرفاء الباسقة التي كانت جدتي – رحمها الله – تأخذنا صباحًا وبعض أطفال الحي ضحى إلى شجرة نادرة ناضرة من الطرفاء معها دلّة قهوة مُرَّة لكنها في فمها أحلى من الشكولاته التركية.
وهناك تحكي لنا قصص الحب بأسلوب سردي بسيط سهل ممتنع مليء بالأكشن والإثارة والرومانسية دراما قديمة عتيقة تفوق دراما المسلسلات العربية اليوم. تبدأ قصتها بالثناء على الله والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وتختمها بالاستغفار قائلة (يقولون ونستغفر الله مما يقولون) ما إن تنتهي حتى نطلب منها أن تكرر القصة مرة أخرى أو تقص غيرها فتعتذر وتحت إلحاح أطفال الحارة الذين لا يتجاوز عددهم خمسة أطفال تبدأ بقصة أكثر حماسًا وإثارة في مشاهد أشبه برواية لا تنتهي فصولها ومسرحية لا تتوقف مشاهدها.
وحين ترتفع الشمس في كبد السماء مع صوت الأذان تعود مسرعة لأداء صلاة الظهر ببيتنا الشعبي …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى