أهداني صديق عزيز لي وهو الأستاذ/ محمد نادر كتاب (مختصر كتاب المعجزة) حول لغة القرآن الكريم.. إعجاز أم مجرد عبقرية..من تأليف/ أحمد بسام ساعي، من إصدار المعهد العالمي للفكر الإسلامي بجامعة إكسفورد.. بريطانيا..(١)
وقد أبهرني الكتاب بمضمونه الجديد للتعريف بالإعجاز التجديدي في القرآن الكريم، والذي أحدث صدمة كبيرة للعربي عند سماعه أول مرة في بداية نزول آيات القرآن، ويقول المؤلف: إنه استعان بالموسوعة الشعرية الضوئية (٢) التي تشتمل على أكثر من عشرين ألف بيت من الشعر الجاهلي، ليبحث عن كلمات استجدت في لغة القرآن وهل عرفها العربي الأوَّل، وقد اخترت لكم بعض الوقفات من الكتاب تحفيزًا للجميع للاطلاع عليه وقراءته، وخاصة من له علاقة بعلوم اللغة العربية، وعلوم القرآن والتفسير وتدبر القرآن الكريم:-
1. أدركت الفطرة العربية منذ نزول أول آية من القرآن أنها أمام معجزة حقيقية، وأن كل ما يحيط بالقرآن يوحي بالجد والخصوصية، ابتداء باسمه (قرآن) وهو ما لم تعرفه العرب قبل، ثم اسم مقدمته (الفاتحة) والتي لم يشاركه كتاب آخر فيها، ومرورًا باللفظ (سورة) والمشتق من الجدار، وفيه إشارة سماوية لعلوه، وحماية مبكرة وحصانة للقرآن وسوره وامتناعها عن التقليد، ثم اللفظ (آية) الذي يعني معجزة وكأنها إشارة تعجيزية مبكرة لآياته، ثم لفظ (يتلو) أو (تلاوة) وهو خاص بالقرآن، بل حتى أسلوب كتابته وقراءته ذات طابع خاص؛ حيث يُشترط سماعه من قارئ.
2. رغم تفرده ودقة معانيه العربية، فهناك الملايين ممن يحفظونه غيبًا من الغلاف للغلاف، بالمدود والسكتات، والقلقلة، و..و..
وغيرها من أدوات التجويد، والعجيب أن النسبة الأكبر ممن يحفظونه هم من غير العرب، لأن العرب لا يمثلون إلا نحو 20% من مسلمي العالم، وقد لا يعرف قراءة أو فهم أي نص عربي آخر، رغم أن الحروف هي نفس الحروف العربية.
3. نصوص القرآن (سوره، آياته، حروفه) موثقة توثيق لا نظير له بين الكتب على وجه الأرض، فنصوصه يتلوها أئمة المساجد كل يوم ثلاث مرات جهرًا أمام المسلمين في صلوات المغرب، العشاء، الفجر، ولو حدث خطأ لردوا عليه، بالإضافة لملايين القراء والحفاظ الذين يتلونه في الإذاعات ووسائل الإعلام الأخرى، وفي حلقات التحفيظ المنتشرة في جميع أنحاء العالم، كما أن مئات الآلاف من الحفاظ من أئمة المساجد يتلونه جهرًا من الفاتحة للناس خلال صلاة التراويح (٣) في رمضان على مسمع من الحفاظ الذين خلفهم في كل عام منذ أكثر من ١٤٠٠ عام، فلا مجال ألبتة للخطأ.
4. قلبت لغة الوحي موازين اللغة المتوارثة عند العرب، وجاءت بسبائك لغوية جديدة فتتت السبائك اللغوية المتوارثة عند العرب مثل: (ألا ليت شعري. ألا أنعم صباحا..خليلّي مُرا بي .. ودع أمامه..وأنئ امرؤ..إلخ)، وخرجت على النسيج اللغوي التقليدي لتوجد لنفسها نسيجًا خاصًا وسبائك خاصة، ومعظم سبائك القرآن لا تتكرر، وهناك سبائك قرآنية لم تتكرر إلا مرة واحدة في القرآن كله.
فسورة المدثر رغم نزولها المبكر تتكون من (٢٥٦) كلمة بها نحو (٨٤) لفظًا جديدًا لم تعرفه العرب من قبل، ورغم ذلك لم تنكره مثل: (الرجز، الناقور، صعودًا، بسَر، لواحة، سلككم، وغيرها، وفي سورة الفلق (٢٣ كلمة) نحو(٣٨ من المستجدات)، وفي سورة صغيرة كالفاتحة، والمكونة من (٢٩ كلمة) نحو (٥٨) من هذه المستجدات، وهكذا في سائر السور.
٥- من المؤكد أن القرآن لم يأتِ بلغة جديدة منفصلة عن اللغة العربية، ولكنه تفرد بسبائك وألفاظ جديدة وقفز فوق محدودية الألفاظ وتراكيبها وسبائكها وصورها المعروفة عند العرب، وحمل للعرب آلاف من التراكيب اللغوية والتعبيرات الجديدة دفعة واحدة خلال السنوات القليلة التي استغرقها تنزله، وهذا موضع إعجازه، مما أصاب العرب بالذهول والحيرة التي لم يفيقوا منها إلا مع مرور الوقت وتعودهم وائتلافهم لهذه اللغة التي أحبوها.
6. رغم تلك الألفاظ الجديدة والتعبيرات والصور التي جاء بها القرآن، والتراكيب والأعراف النحوية، والأخبار التاريخية، والأفكار والتشريعات الجديدة، والحقائق العلمية، إلا أن العرب لم يقتصروا على فهم تلك النصوص المعجزة، رغم أنها كانت تحمل لغة جديدة عليهم، بل تجاوز الأمر للإعجاب الشديد بها حد الذهول واعترافهم العفوي، المؤمن منهم والمكذب، بتفوق لغة القرآن واستحالة الوصول إلى مراقيه، وكانت عبارة قرآنية صغيرة من ثلاث كلمات مثل: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر ) (الحجر: ٩٤)، كافية لتهز البدوي العربي الذي سمعها مصادفة فيقول: “ماهذا الذي أسمع!! ليس هذا بكلام بش” ثم يسجد قائلًا: “سجدت لفصاحة هذا الكلام”.
٧-كل جديد يخطه قلم، وينطق به لسان بشري اليوم، لن يلبث أن يصبح قديمًا من الغد، فالسبيكة اللغوية التي قدمها الشاعرالجاهلي الأول كانت جديدة حين جاء بها لأول مرة، لكنها أصبحت قديمة متكررة حين تناولها الشاعر اللاحق، أما السبيكة القرآنية؛ فقد أمسك معظمها بالزمن، وتوقف عند اللحظة التي تنزل بها، وهذا النسيج القرآني ظل جديدًا حتى يومنا هذا وسيبقى كذلك، “والعجيب(٤) أن المسلم الذي بلغ الخمسين من العمر يكون قد قرأ الفاتحة أكثر من (٣٠٠ ألف مرة) في صلواته، ورغم ذلك يشعر بجمالها ولذة تلاوتها في كل مرة ولا يشعر أنها قديمة، وهكذا مع بقية سور القرآن وهذا من مظاهر إعجاز القرآن. أ.هـ.
٨- ليس من الضروري أن يكون الإنسان مسلمًا لكي يشعر بهذه القوة الخارقة للقرآن، ذلك أن الكثير ممن دخلوا الإسلام، ودرسوه اختاروا الإسلام بعد سماع القرآن وتلاوته، ومنهم عالم اللغة العربية البريطاني، (أرثر جيه أربري)، والذي قال: “القرآن ساندني في فترة عصيبة في حياتي”، وقال: “إن استماعي للقرآن وهو يرتل بالعربية كاستماعي لنبضات قلبي”، وهذا (فريدريك ديني) كاتب غير مسلم قال: “إن تجربة تلاوة القرآن بالعربية تجربة رائعة مقلقة”، وقال: “لقد شعرت أن القرآن هو الذي يقرأني”.
٩) كان القرآن الكريم الحافز للنحويين واللغويين والبلاغيين على وضع قواعدهم؛ فالقرآن أقدم من القواعد، فكان القرآن بمثابة الرقيب على تلك القواعد، وليس العكس.
١٠- فأتُوا بسورة مثله؛ وهكذا ضحك آباؤنا في الماضي، ونضحك اليوم، ساخرين ومشفقين، لتلك المحاولات الساذجة والمستمرة لأناس يريدون أن ينالوا من القرآن ومن الإسلام، فيحاولوا وضع هياكل لغوية مشوهةٍ يدّعون أنها سور قرآنية، فمهما حاول المزورون أن يُدخلوا في القرآن ماليس منه، أو يضعوا ما يدعون أنه سورة، فسوف تفضحهم خصوصية القرآن اللفظية والتركيبية، وسبائكه المميزة، تمامآ كما تفضح اليوم اختبارات الـDNA في مخابر الأطباء من يحاول نسبة ولد إلى غير أبيه، أو فعل إلى غير فاعلة، فجسم لغة القرآن سيرفض أي دم لغوي جديد نحاول أن نحقنه فيه.
ومازال هذا التحدي الإلهي للعرب وغيرهم وحتى الجن بأن يأتوا (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) قائمًا منذ أكثر من ١٤٠٠ عام، كما نزل للتو، رغم توالي العبقريات ومرور الأحقاب.
11. الكتاب تحدث عن اللغة المنفتحة التي تفرد بها القرآن، وفن الالتفات، والصور الافتراضية، ومعجزة الجمع بين الجِدة والوضوح، وقضايا إعجازية عديدة، ويقول: إنه حاول إيجاد نظارات خاصة تقود القارئ لاكتشاف تلك الحديقة الغناء من لغة القرآن، وما تحتويه من أسرار وإعجاز وحقائق لغوية لها، ولم يكن يعرفها الكثير..
12. أكَّد الكاتب على أن أي تفسير بشري للقرآن (من غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم) أو تحليل لغوي، أو كشف إعجازي بلاغي أو لغوي أو علمي، مهما اتخذت من أشكال وأساليب موضوعية، تبقى في حدود الترجيح وتخضع لاحتمالات الخطأ البشري، وإنما هي محاولات للاقتراب من الحقيقة، التي نجد أنفسنا في النهاية عاجزين عن الوصول إليها، بإمكانياتنا البشرية القاصرة.
والكتاب جدير بالقراءة المتأنية خاصة من المختصين، وهو مما يزيد الإيمان عند المسلم بعظمة القرآن وأنه منزل من عند الله تعالى وأنه معجز في كل نواحيه، ويقيم حجة جديدة وبرهانًا ساطعًا لغير المسلمين؛ وخاصة من يتقن اللغة العربية بتفرد تراكيب وسبائك القرآن، وأنه لا يمكن إلا أن يكون منزلًا من عند الله العظيم.
—————-
1. يبدو أن المعهد العالمي تأسس في جامعة أكسفورد ببريطانيا، ولكنه انتقل إلى ولاية فرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وقد صدرت النسخة الأولى من الكتاب ١٤٣٤هـ-٢٠١٣م.
2. الموسوعة الشعرية أصدرها المجمع الثقافي بالإمارات العربية عام ١٩٩٨-٢٠٠٠-٢٠٠٣م.
3. هذه إضافة من إحدى دراساتنا.
4. وهذه إضافة أيضًا.
1
بارك الله فيكم وشكر لكم وفتح عليكم وزادكم من علمه.