يجب أن تُغذى الإيجابية في العروق كما تغذى بالماء، قد يستقيها الإنسان في فترات قوَّته بذاته، ومن ذاته، أو بتفاعلاته واقتباساته أو من تدفقاته وتداولاته، لكنه قد يفقد تلك الطاقة المشعة التي تسعفه لإبقاء تلك القوة حيّة تؤزه نحو التقدم والاستمرارية ليحلّ إذ ذاك الضعف والوهن، بدلا من النشاط والحيوية!!
نعم، كلما تقدم بالشخص العمر فإنه يتهاوى نفسيا وبالتالي ينعكس ذلك على جسده، ومما يعجل بذلك العجز أو قل: السأم؛ تعبيرا عن الفقد بنوعيه: فقد الاهتمام، أو فقد الأشخاص المقربين أو حتى الأقران!!
إن مما أثار شجوني، وكأنما أصبت بذهول الصدمة، ذلك الموقف العابر عندما كنا في زيارة عيديه، إذ جرّتني الصدفة لـ (مسنٍ ) لم أره منذ سنين طوال.. اعرفه من قبل؛ ذا عنفوان شديد، وأنفة عالية.. سلمت عليه معرفا- لطول الغياب وضعف قواه- فردد اسمي مرارا، مردفا: (ألا تعلم أنني أدعو على نفسي بالموت)!!
كانت كلماته بمثابة السهم في الفؤاد!!
ذكرته بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الناس من طال عمرُه وحسن عملُه»
وأن طول العمر من حسن الحظ لما فيه من زيادة في الأجر ورفعة في الدرجات، سيما أنه يتمتع بذهنٍ واعٍ، ولسان ناطق يلهج بالذكر والشكر، أو بالقول؛ طلبا أو دعاء!
لم يكن ذلك التنهد لعقوق أبنائه، فهو يحظى بكل عناية ورعاية؛ تقديراً وإجلالاً، بل ولم يكن لأنه يشعر بالذل والهوان، كحال من يتعرض للتجاهل والاهمال، أو من يُلقى به في دار المسنين؛ كفرانا لسعيه وجحودا لبذله ورعايته وقت إذ كان معطاءً.. لكن ذلك يعود لأنه شعر بفارق زمني أقصاه نفسيا عمن حوله، وإن كانوا أقرب الأقربين، وإن كان به حفيا!!
وجدته آنذاك وحيدا مطرقا رأسه، قرأت أفكاره، إذ هو يستعيد شريط الذكريات، يستعرض عن كثب تلك اللحظات الجميلة لحظة بلحظة؛ هروبا من واقعه المؤلم نفسياً.. ربما يرقب عزيزا -بين أطياف الغروب- ذهب ولن يعود أبداً!!
لم يعد العيد عنده ذو معنى أو هو مختلف تماما عما كان يعهده، لم يكن بذاك الزخم والتدافع الذي يشعره بالحيوية، وجدته وحيداً، وقد أنطفأت قناديل الفرح في ذاته المتعبة!!! إذ ذهب أفراد أسرته – كعادة العيد – مبادئين أور ردا لزيارة لأقارب أو جيران أو أصدقاء .. في حين بقي حبيسا في داره، شعر بأنه من زمن مختلف، الزوجة والأخوان قد فارقوا الحياة، لم يعد من الأنداد إلا القليل، والقليل جداً، الذين هم في مثل حاله، ممن لا يبرحون أماكنهم، مما يعني انقطاع التواصل، فكل ملازم لبيته أو فراشه مجبراً لا اختياراً.. هنا يكمن الشعور بالغربة!!!!
حضر إذ ذاك قول زهير ابن أبي سلمى:
سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهرَمِ
خلاصة القول:
لم تعد المتطلباته الغذائية من اهتمام من تقادم عمرا، كما أن التعاطف الزائد يزيد البعض انكسارا، لهذا فإن من صور البر الحقيقي أن تتحدث بسليقته اللغوية، أن تلقي إليه البصر، أن ترخي له السمع، بل أن تقبل عليه بالقلب والعقل، أن تلازمه ما استطعت سبيلا، أن تبدي اهتماما بقصص كفاحه، أن تمجد نضاله وكده في زمن كشر عن أنيابه؛ نالهم منه البؤس والتعب وأنواع الشظف؛ كدحا منهكا، وضيقا وشده- لكنهم كانوا سعداء؛ بدافعية الإنجاز حينا وبرفقة الأحباب والأنداد حينا، بحفلات السمر أو التحلق لاحتساء قهوة الصبح أو تجاذب أهازيج الانطلاق لمناحي العمل – أمَّا وقد فقد ذلك الزخم والتفاعل فلن يعوضه سوى أن يشعر بأنه محل تقدير، ليذيب ذلك الفارق الذي يعتصره ليعيش التناقضات بين ما كان منه وله، وبين ما آل إليه حاله!!
يجب أن نتعاطى معه لنأخذه من رحلة البحث الذهني المضنية، التي يسترجع من خلالها تلك الصور والمواقف لمن كان معه، حوله، برفقته، في مجالسه، في رحلاته، في غدوه ورواحه- إلى أن يكون حاضرا معنا، في واقع جميل، نبادله الضحكات، نمازحه، نتناغم مع ميوله، رغباته؛ نشاطره أحاديثه الودية، نماتعه وكأننا له ندا، وكأنه لم يفقد أحدا، وكأننا نعيش أحضان زمنه ومعاصريه!!
كم يستحق منا ذلك، وأكثر.. إنهم البركة، مكتنز الحكمة، القدوة في الصبر والمثالب الحسنة!!!