الابن في منتصف العقد الثاني إذ بدأت تظهر عليه علامات ضعف البصر، أشتكى لوالده.. اصطحبه لمحل النظارات، جال بنظره في تلك الأنواع والأشكال المصفوفة للعرض، وقع اختياره على إحداها، كانت الأجمل-في نظره- بالفعل كانت الأجمل!!
أتفقا على السعر- الأب والبائع- انتظرا حتى تم تجهيزها في المعمل الداخلي، ما إن جاء دور التسليم لمحها الأب بإعجاب.. ما شاء الله!!
أراد ممازحة الابن:
أيهما أفضل نظارتي أم نظارتك؟!
رد الابن بذكاء وسرعة بديهة- وهو يفيض امتنانا لوالده؛ تقديرا وحبا كونه يحظى باهتمام ورعاية فائقة-
بل نظارتك يا أبي!!!
الأب: نظارتي- وقد بدأ لونها شاحبا ومفاصلها تهتز تقادما؛ كجسدي المهترئ!!!
تمتم قائلاً:
ألا ليت الشباب يعود يوماً … فأخبره بما فعل المشيب
بل نظارتك يا بني فنظارتي قد دهاها مادهاني من الضعف وانخيار القوى!!
كان صاحب المحل إذ ذاك – ذلك الشاب السعودي- يقف جانبا، لكنه كان مرخيا سمعه لحوار الابن ووالده، ألقى السمع وهو شهيد، تغلغل ذلك الحديث لخلجاته، تداخلت المشاعر، إذ فقد والده في سن مبكره، ففقد معه تلك الرعاية الأبوية، أغرورقت عيناه؛ حزنا وأساً – غرق في فكره هنيهة – عادت به الذاكرة لجلَده ومعاناته، لحالة الحرمان والعوز، لتعثره وتأثره!!
كانت تلك العاصفة لدقائق فقط.. استعاد بعدها الجميع وعيه!!
عاود الأب- الرجل المسن- السؤال: كم الثمن؟!
كان يعرف، ربما من باب التأكيد، وربما استجداءً للتخفيض!!
رد البائع- الأجنبي- (مئة وتمانين) بلكنته المعتادة!!
أخرج ذلك المسن نقوداً تبدو متجعدة متعطفة متهالكة- نوعاً ما- وحالها يقول: تجميع من شبه العدم، إذ هي مما تبقى من معاش الضمان الاجتماعي وحسب!!
أسرع الشاب- صاحب المحل- قال: ياعم، ثمانون فقط!!
ثمانون، والبائع يقول: مئة وثمانون!!
قال: لا أخطأ .. مبررا بأنه لا يتقن العربية، كي لا يحرج الاثنين!!
قالها؛ تجاوبا مع ظروف العم.. كاد أن يعفيه تماما لولا شكه أن أنفته سيجعله يصر على دفع كامل المبلغ!!
آثر أن يأخذ قيمة التكلفة مع هامش ربح لا يتجاوز 15٪ كتوازن يحفظ حق البائع والمشتري- دونما مبالغة أو مضاعفة سعر، كتضخم سوقنا!!!
أعاد ذلك الرجل المئة ريال لجيبه، بتثاقل، وهو بين فكر؛ لماذا هذا التخفيض المفاجيء، وما هي أولوية صرفها؟!
خرج الابن، وعلامات الفرح تعلو محياه وقد زال ذلك الغبش، وأتضحت أمامه الصور عن ذي قبل!!
ألتفت الأب لابنه قائلا:
ألم أحذرك من المداومة على الأجهزة، ومن السهر؟!
أرأيت أنها لص سرقت نظرك كما سرقت وقتك، كما أشغلتك عن دراستك وتحصيلك العلمي.. كم فوتت عليك كثيرا من التواصل وأداء الصلوات؟!!!
ليتك يابني تتجنبها أو تجعلها للضرورة!!!
أطرق الابن، قائلا: أبشر..
لكنها مجاملة.. هل سيخفف؟
هل سيكف؟
هل سيطبق ما قاله والده؟
هل سيفي بوعده أم أصبحت إدمانا لا تنفك عنه؟!
لعل وعسى!!
ولعل أبناءنا يقننون استخدام تلك الأجهزة، الألعاب بدلا من الإفراط فيها!!!
ولعلهم يستثمرون أوقاتهم في الاستفادة من تلك المواقع، والنهل من قنواتها الإثرائية بدلا من إهدار الوقت فيما لا طائل من ورائه!!