هناك مفهوم سينمائي كان يتكرر كثيرًا في المسلسلات والأفلام المصرية؛ وبخاصة الأعمال القديمة، فعندما لا يلتزم أحد الأبناء بتعليمات الأب أو حينما يخالف أوامره، حتى وإن كانت تلك الأوامر غير منطقية؛ عندها يغضب الأب، ويطلق عبارات التهديد والوعيد لذلك الابن قائلًا وبنبرة حادة وباللهجة المصرية الجميلة: (والله!! أحرمك من الميراس “الميراث”). وللأسف فإن هذا المفهوم ليس له علاقة بالشرع، إذ إن المورث لا يستطيع أن يحرم أحد الورثة من حصته في الميراث، كون المال وكافة ممتلكات المورث لا تصبح ملكًا له بعد موته بل تنتقل ملكيتها إلى الورثة مباشرةً وبمجرد وفاته. إلا أنه وفي المقابل فإن من حق الشخص المالك للمال وطوال فترة حياته أن يهدي أو يهب من أمواله وأملاكه لمن يشاء من الناس شريطة أن يكون ذلك الشخص الواهب كامل الأهلية وكامل الملكية.
بعض المسؤولين في مؤسساتنا وبكل أسف يتعامل مع المال العام وحقوق الموظفين بنفس المنطق؛ وكأنها من ضمن ممتلكاته الخاصة التي ورثها كابرًا عن كابر. ويعتقد ذلك المسؤول أنه طالما مازال على قيد الحياة الوظيفية وكونه مازال يتربع على كرسي الإدارة فإن من حقه أن يهب لمن يشاء من الموظفين ما يشاء من المكافآت والانتدابات وخارج الدوام والإكراميات والدورات التدريبية والسفريات وغيرها من المزايا الوظيفية التي تعود على الموظف بالمنافع المادية والمعنوية؛ حتى وإن لم يكن ذلك الموظف أهلًا ولا مستحقًا لتلك الحوافز. بينما تجده في المقابل يحرم غيره من الموظفين من أية مهام قد تعود عليهم ببعض المنافع المادية والمعنوية. والأمر الغريب أن كثيرًا من الموظفين الذين يتم حرمانهم من تلك المهام هم أهل لها بل وأولى بتنفيذها من الأشخاص الذين يتم تكريمهم أقصد تكليفهم بها، وفي ذلك الأمر ليس حرمان للموظف المؤهل من الاستفادة من إمكانياته وقدراته وتفوقه للقيام بتلك المهام، بل إن في ذلك حرمانًا للمستفيدين من الخدمات التي تقدمها المؤسسة؛ حيث إنه لو تم تكليف الشخص المؤهل للقيام بها لكانت الإنتاجية عالية الجودة؛ بدلًا من أن يقوم بها شخص قليل المعرفة وعديم الخبرة فتأتي المخرجات سيئة.
كما أن ذلك المسؤول لا يدرك أن استخدامه لنفوذه وتحكمه في ممتلكات المؤسسة وتقصيره في تقديم الخدمات التي يحتاجها جمهور المستفيدين والتي أنشأت المؤسسة من أجلها، دون أسباب منطقية سوى محاباته لفلان من الناس لصداقة أو قرابة أو مصالح مشتركة؛ وفي المقابل حرمان شخص مؤهل بسبب بعض المواقف الشخصية التي لم تعجب المسؤول، ومن ثم شخصنة تلك المواقف والتعامل من خلالها؛ كإحدى وسائل الضغط على الموظف للتراجع عن موقفه أو للانتقام منه وتخويف غيره من الموظفين، كل ذلك لعمري هو قمة الضعف وعُمق الغباء الذي يتمتع به ذلك المدير، ولا أدري إذا ما كان ذلك المسؤول يجهل أو يتجاهل أن مثل تلك التصرفات تندرج تحت سلوك إساءة استخدام السلطة واستغلال النفوذ؛ وهذا السلوك يعد صورة من صور الفساد الإداري والمالي الذي تحاربه حكومة خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله-، وعلى ذلك المدير المسكين أن يعي أن هناك ذراعًا قوية من أذرع تحقيق رؤية سمو ولي العهد -وفقه الله- تسمى هيئة الرقابة ومكافحة الفساد تضرب بيد من حديد وتلاحق الفاسدين والمفسدين لتقضي على كافة بؤر الفساد الإداري والمالي، وقد أكدت الهيئة أنه لا حصانة لفاسد مهما كان المنصب أو المكانة، وأن الفساد لا يسقط بالتقادم حتى بعد انتهاء العلاقة بالوظيفة، وأنها ماضية في تطبيق ما يقضي النظام بحق المتجاوزين دون تهاون.
مسك الختام:
قال تعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ).
……………………………………………….
عضو هيئة التدريب في معهد الإدارة العامة.