تعلَّم على يد والده الكتابة وقراءة القرآن لتؤهله آنذاك أن يكون معلمًا بالقرى والهجر؛ فكان من أوائل من علم حرفًا وآية لكثير من الأجيال رغم صغر سنه؛ حيث إنه لم يتجاوز سن الخامسة عشرة، ولكن بعزيمته وإصراره وحبه للعلم والتعلم وتعليم الناس ما ينفعهم، ثم انطلق بعدها تاركًا والديه وأهله بحثًا عن لقمة العيش؛ فقد كانت حياتهم صعبة ليبدأ أول وظيفة له بمدينة الطائف عمل بها قرابة النصف سنة، وبعد سماعه عن البترول ولنظرته الثاقبة، قرر المغادرة والاعتماد على نفسه ليصل إلى المنطقة الشرقية بعد رحلة طويلة امتدت سبعة أيام مع صحبة يُشار لها بالبنان من التعاون والألفة وحبهم لمساعدة الغير، وكانت تسمى مدينة الشرقية لدى أهل الديرة – الباحة – بالمقاطعات فكل من يذهب إليها تنقطع أخباره لبُعدها الشديد، بدأ البحث عن حلمه للمساهمة في بناء وطنه، لم يتيسر له العمل بشركة أرامكو لصغر سنه فسعى جاهدًا بالبحث حتى عمل في تعليم الشرقية لمهارته بالقراءة والكتابة، ولم يكن مقتنعًا بهذا العمل؛ فهو مكافح سعى دائمًا لتطوير نفسه فظل باحثًا بين الشركات، وتم قبوله في السكة الحديد المسماة حاليًا بالمؤسسة العامة للخطوط الحديدية، وبدأت مسيرته التي استمرت ٤٠ عامًا إلا شهرين.
بدأ العمل بالإدارة في الدمام ثم قطارات البترول بالظهران، وانتقل في قطارات الركاب ليستقر لاحقًا بمدينة الأحساء، تم نقله لقطاع لم يرغب بالعمل به ولكنه لم يأبه لذلك وباشر عمله في قطارات الأسمنت، وحاول جاهدًا للنقل حتى تيسر له العودة ليعمل في قسم الكهرباء، ثم تزوج لاحقًا بتلك المرأة المكافحة التي ساندته في إكمال مسيرته العلمية والعملية ولصعوبة ظروف الحياة كان يأتي له الأقرباء بالمنطقة الشرقية والأحساء أو من أبناء قريته وكان لهم العون والسند والموجه، ولعلمه بأهمية التعليم قام باصطحاب أخيه معه وتسجيله بالمدارس الحكومية بالأحساء حتى أكمل مسيرته العلمية بأفضل المدارس -مدرسة الأحساء الأولى – وكانت تعرف بمدرسة الأمراء درس فيها مستشار خادم الحرمين الشريفين الأمير خالد الفيصل، ليأتي بعد ذلك نقله إلى الخرج مساعدًا لرئيس الكهرباء بالخرج؛ ليستفيد منها خبرات علمية وعملية والتعايش مع كافة أبناء هذا الوطن المعطاء لم يكتفِ بهذا المنصب مساعدًا للرئيس بل سعى جاهدًا لتطوير نفسه، ودخل في مسابقات وظيفية ليجيد أساسيات اللغة الإنجليزية ويتعلم الصيانة حتى أتقنها ليتأهل لمنصب قيادي رفيع بمدينة الرياض مديرًا للشؤون الفنية بالميناء الجاف بالرياض حتى أصبح يُعتمد عليه وذو رأي ومشورة عند أصحاب القرار والقيادات العليا بالسكة الحديد، وكان يذهب لزيارة والديه بالإجازات السنوية وعند بناء أخيه أول منزل له بالباحة تعثرت لديه معاملته لدى شركة الكهرباء، وكان يملك علاقات جيدة مع وكلاء الوزارة ولحرصه الشديد على والديه لم يتوانَ في البحث عن كافة السبل لإطلاق التيار، وليتمتعوا بوسائل التدفئة لبرودة الجو بالباحة حتى تم إيصال التيار خلال خمسة أيام.
كان في عمله مساهمًا بإعداد الخطط والصيانات الدورية والطارئة لما لأهمية القطار في نقل البضائع؛ فهو الشريان الأساسي لمدينة الرياض ولعدة مناطق مختلفة فأي تأخير قد يكون له عواقب وأضرار اقتصادية متنوعة استمر في ذلك حتى أصبح ممثلًا للمحطة في الاجتماعات مع عدة لجان حكومية، وكان شديد الحرص في المحافظة على المال العام والنزاهة فقد حدثنا كثيرًا عن عدة شركات تقوم بالمبالغة بالأسعار أو تقديم منتجات ذات جودة غير جيدة، ولكنه لم يسمح بذلك بل كان يبحث عن الجودة وذات السعر المناسب؛ فقد تعلم وتربى على يد والده على الأمانة والإخلاص والنزاهة لتمتد معه مسيرة العطاء والتميز لينهي مسيرته بترشحه للمرتبة الثانية عشرة مع صدور قراره بالتقاعد لكبر سنه؛ ونظرًا لهذه الكفاءة المتميزة صدر قرار التعاقد معه، واستمر بالعمل لمدة سبع سنوات حتى تعب من العمل تاركًا هذا العمل الذي أَحبه وأحبه، ولولا ظروف الحياة التي أجبرته على العمل ليعول بها على والديه وعائلته لأكمل مسيرته العلمية، وخلال هذه المسيرة العلمية لم يكن يهمل أهله فقد ساهم بتعليمهم جميعًا حتى أكملوا المرحلة الجامعية، وكان بيته بمدينة الرياض مفتوحًا للجميع مستقبلًا من له مراجعات طبية أو حكومية وموجهًا لهم ومساندًا لكثير من أبناء قريته لمعرفته بصعوبة الحياة ومشاقها.
ابتدأت بعدها مسيرة جديدة بحياته؛ فقد تفرغ للعبادة وتعليم أبنائه وأحفاده العلوم النافعة وحرصه الشديد بالجميع على إكمال المراحل الجامعية ومتابعته لهم بنفسه موجهًا ومعاقبًا لكل من يقصر في ذلك، ولم ينقطع عن العمرة فكان في كل عام يذهب للعمرة، ويتوجه لمنطقته الحبيبة الباحة ليتجول بالبيوت القديمة متذكرًا أيام الصبا وجولاته مع أبيه وتعليمهم للناس ومهتمًا بالزراعة وواصلًا لرحمه وأهله، كان محبًا لوطنه مساهمًا في شتى المجالات في تنمية الوطن ومن حبه الشديد للشركات الوطنية لم يتذمر أبدًا منها حتى عند وجود تقصير من بعض الجهات، متابعًا لكل جديد ومهتم بتفاصيل التاريخ؛ فكان يروي لنا دائمًا قصصًا للمؤسس -طيب الله ثراه- وعن أهمية الوطن ونعمة الأمن والأمان التي حلت بهذا البلد.
وفي أحد الايام التي لم أستطع نسيانها في سنوات كورونا الصعبة، انطلق من مدينة الرياض بسيارته إلى الباحة حتى يقوم بتقليم مزرعته والاهتمام بها وزيارة أقاربه لتأتي الأقدار بتعرضه لحادث خطير.
أدخل على إثره المستشفى بمدينة الطائف، ويتعرض لعدة إصابات شديدة ومؤلمة بقي على أثرها طريح الفراش لمدة عام كامل لم يستطع إلا الكلام، كنا نذهب لزيارته لنراه صابرًا غير جازع شاكرًا لله حامدًا لله على قضائه وقدره، رغم ما أصابه من ألم شديد وكان يردد دائمًا: “يا رب كلها عليك والحال ما يخفى عليك” وعند قيامه من غيبوبته سأل عن شهر رمضان وعن الصلاة ليؤديها، يا ألله رغم الألم الشديد والأعذار الشرعية التي له لكنه قلبه متعلق بالمساجد والذكر؛ فلم يفارق المسجد خلال سبعين عامًا، وبعد ما أصابه من آلام استمر على عادته يسأل عن الجميع من أبنائه وأحفاده وموجهًا للجميع في أصعب لحظاته، وبعد تعب شديد لحقه وافته المنية في يوم الأربعاء بعد صلاة المغرب بالعاصمة الرياض، أبيض الوجه لم يحمل في قلبه مثقال ذرة من حسد أو غل تاركًا خلفه ذكريات جميلة وذكر حسن وسيرة طيبة لم تقف الاتصالات خلال تعبه وبعد وفاته ولم يتوقف المعزون حتى هذا اليوم في ذكره ليأتينا ذات يوم معزيًا طفل صغير مع والده، وكانت دموعه على خديه ليخبرنا أنه كان بعد كل صلاة يرافقه ويلاعبه وناصحًا له بالعلم والتعلم وبر والديه.
لم أستطع خلال الفترة الماضية الكتابة عنه لعظم الألم وصعوبة الموقف وحرارة الفقد؛ فكنت عند زيارتي له دائمًا أجده ناصحًا ومقدمًا لي العديد من الصحف الورقية التي بها إعلانات وظيفة ودورات تدريبية متنوعة.
لا تحزني يا أمي ولا تبكي يا جدتي؛ فقد كان جدي عثمان بن أحمد الفقيه عظيمًا كالجبال مسيرته عطرة وحياته كريمة ومعشره طيب وذكراه جميلة لم يترك عداوات بل زرع محبته في قلوب الجميع -رحمك الله- رحمة الأبرار؛ فقد أفضت إلى رب كريم رحيم؛ سائلين الله -عز وجل- أن يجعل ما أصابك رفعة لك وتكفيرًا لذنوبك وقبرك روضة من رياض الجنة.
ماشاءالله تبارك الله مقال رائع وجميل
أسال الله ان يغفر لجدك ويرحمه ويسكنه فسيح جناته